الجمعة، 6 سبتمبر 2013

في مديح التحليل والفكر المنظم


تقدم المجتمع ينبع من ثقافته، ومن طرق تفكير أفراده. 

تفكرت في هذه الفكرة وأنا أقرأ مقال د. زياد بهاء الدين "ما أهمية قانون الجمعيات؟ وما مشكلته؟" في جريدة الشروق بتاريخ 21 مايو 2013، وهو مقال يدل على تفكير منظم، منطقي.

في مقاله النقدي يقدم د. زياد في أربع نقاط متتالية ومتواصلة صورة شمولية لمشروع الجمعيات الأهلية، فيبدأ النقطة الأولى بسؤال يشد فيه انتباهنا عندما يركز على الصورة الكبيرة لمشروع القانون بدلًا من التركيز على مكوناته أي بنوده، فيسأل: "ما هو الغرض من تشريع هذا القانون؟" وهذا السؤال له واحدة من إجابتين: "إما الرقابة والتنظيم؟ أو التشجيع والدعم؟". هذه المقدمة الصادمة تحثنا على شيئين: أولًا، ألا نكتفي بالنظر إلى بنود مشروع القانون بل نتعداها إلى الفكرة الأساسية، إلى الهدف لنعرف لماذا نحن في الأساس نحتاج أن نشرع قانونًا للجمعيات الأهلية، وثانيًا، تكشف لنا أننا ننظر إلى الجمعيات الأهلية كهيئات مشبوهة نعمل على أن نتحكم فيها، وهذا التحكم (عن طريق الرقابة والتنظيم) يجعلها لا تستطيع أن تقوم بدورها كطرف أساسي في التنمية الاقتصادية. 

من هذه النقطة الأولى يبني د. زياد النقطة الثانية وهي أهمية تحرير تأسيس وإدارة الجمعيات الأهلية من سطوة الدولة حتى تقوم بعملها أحسن قيام. ومن هذه النقطة ينتقل إلى النقطة الثالثة التي بنيت على النقطة الثانية وهي أن التحكم الذي يفرضه مشروع القانون سيضيف أعباءً مالية ومادية لا داعي لها، وينهي المقال بالنقطة الرابعة وهي أن هذا التحكم يسعى للسيطرة ليس فقط على الجمعيات الأهلية ولكن أيضًا على المبادارت والحملات الشعبية وسيضرهم كما سيضر الجمعيات الأهلية. 

سأكتب في مدونة أخرى عن مشروع قانون الجمعيات لأنه ضار للجمعيات وضار لكل مصر، ولكني الآن أكتب عن طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع المواضيع المختلفة، وأهمية التحليل لمعرفة الأفكار المكونة للموضوع وتسلسلها فيه. 

تحليلنا لمقال د. زياد بهاء الدين يظهر لنا أنه من المقالات التي نحب أن نقدمها كمثال لمقال بناه كاتبه بنظام. نجد في المقال فكرة أساسية وأفكارًا مساعدة تبنى واحدة فوق الأخرى، ولا يوجد في المقال كلمات غير ضرورية أو أفكار ليست في صلب الموضوع. 

لقد عودتنا ثقافتنا وتعليمنا أن ننظر إلى كل فكرة وكل عامل على حدة، كوحدة مفردة. لم نتعود أن نغوص في تحليل المقالات لنعرف مكوناتها المختلفة. وهذا لا يتوقف فقط عند كتابة المقالات، فنحن لم نتعود منذ الصغر أن نبحث عن العلاقة بين مكونات الأشياء المختلفة، أو كيف تتعامل هذه المكونات المختلفة مع بعضها لتكون الصورة الكبرى التي تجمعها معًا. 

وفي هذا الصدد أقدم قصتين وملاحظاتي الشخصية عن أهمية التحليل في مواضيع مختلفة.

القصة الأولى عن أهمية التحليل في إتقان الألعاب الرياضية. عندما أخذ فنيون أفلام فيديو لأبطال جولف وهم يضربون الكرة لتطير بعيدًا وحللوا كل صورة من هذه الأفلام استطاعوا أن يستخلصوا منها تصرفات معينة من أيدي وجسم لاعب الجولف تساعده على أن يرمي الكرة إلى مدى بعيد، وطبقوا هذه المعلومات المستخلصة من التحليل مع لاعبي الجولف المبتدئين فساعدوا على تعليمهم إتقان هذه الرياضة، ونفس طريقة تحليل الأفلام تستعمل الآن في كثير من الرياضات مثل التزحلق على الجليد، وغيرها. 

والقصة الثانية عن أهمية التحليل في التصميم الداخلي للمنازل. كنا في شيكاغو على وشك الانتقال إلى منزل كبير أردت أن أصممه لحياة جديدة لنا، فأحضرت سيدة متخصصة في التصميم داخل المنازل. سألتني: "ماذا تريدين أن يقول منزلك عنك؟". استغربت للسؤال، فكنت أعتقد أننا نصمم داخل المنازل للجمال، وللراحة، ولكن أن نصمم للدلالة على من نحن، فكرة لم تخطر لي على بال. فقد تعودت عندما أتناقش مع صديقاتي المهتمات بالتصميم داخل منازلهن أن ننظر إلى كل شيء على حدة: "هذا قماش ستائر رائع"، أو "هذه سجادة جميلة"، وعندما نريده أن يتناسق مع ما حوله كنا نهتم بتناسق الألوان أو بالطراز، ولكن لم يخطر على بالي أن داخل منزلي يقول شيئًا عن من أنا. 

شرحت لي المصممة أن كل شيء نختاره يظهر للعالم ببصمتنا عليه ويقول للعالم من نحن. ما نلبس يدل على من نحن، فعندما تلبس سيدة تاييرًا هي تقول أنها سيدة مهنية، وما نقرأ من كتب وصحف يدل على فكرنا وعلى من نحن، كذلك، اختيارنا لما نضعه في منازلنا يدل على من نحن، فهناك أشياء سهلة الدلالة مثل تواجد مكتبة مكتظة بالكتب دليل على أن صاحبها يحب القراءة وربما يكون مثقفًا، وتواجد كمية من نوع ما من الفن تدل على حب صاحب المنزل لهذا النوع من الفن، وربما تذوقه للفن عامة.

وعندما نصمم منزلنا نحن نختار من مكونات مختلفة في شخصيتنا، فنعطي أهمية كبيرة لبعض المكونات ونستبعد مكونات أخرى. على سبيل المثال، من يضع على المكتبة تذكارات جلبها من رحلاته المختلفة إلى الخارج، فهو يقول أن السفر ورحلاته إلى الخارج هي عامل مهم في حياته، ومن يضع بدلًا من التذكارات صورًا لأولاده وأحفاده هو يقول أن العلاقات الأسرية أهم عنده من السفر والرحلات، فالاختيارات لما نضعه في منزلنا تسلط الضوء على وجه مهم من شخصيتنا، وعلى من نحن.

تعلمت من هذه المصممة كيف أحلل المكان الذي أدخله: هل هناك نقطة محورية واحدة تجذب العين إليها مثل سجادة جميلة ساطعة الألوان، أو لوحة فنية كبيرة تهيمن على المكان، أم هناك أكثر من نقطة محورية تتنافس بعضها مع البعض على اهتمامنا فلا تعطي لعيننا إحساسًا بالراحة. وتعلمت أن النجفة العالية والستائر التي تقترب من السقف تجذب نظرنا إلى أعلى لنرى صورة كبيرة ثرية بالتفاصيل.

من كل هذه الأمثلة نرى أهمية التحليل الذي يساعدنا على معرفة مكونات الكل، وعندما نتعود على التحليل المنظم نصبح مستعدين للخطوة التالية وهي تجميع الصورة كما كانت، والخطوة التي تليها وهي تجميع وخلط المكونات في صورة جديدة، أي التفنن. 

ولأنني مهتمة بتعليم الأطفال أسأل نفسي: كيف نربي الفكر التحليلي في الأطفال؟

والجواب أنه عن طريق الألغاز والألعاب المكونة من مكعبات ذات ثلاثة أبعاد نعلم الأطفال الصغار تكوين الأشكال المختلفة، وفكها، وملاحظة مكوناتها، ومعرفة كيف يتكون الكل من هذه المكونات، ثم نتدرج بهم إلى القراءة، فنعلمهم كيف يتعرفون على الفكرة الأساسية في فقرة مكتوبة، وكيف يسلسلون الأفكار واحدة تلو الأخرى ليخلقوا فكرًا تفننيًا جديدًا. كذلك، نجد أن المشاريع المدرسية تمرن الأطفال على الفكر التحليلي ومنه يتدرجون إلى الفكر التفنني.

وهنا قالت شهرزاد: " الفكر التحليلي مهم، بل في غاية الأهمية، لأنه هو ما يؤسس للفكر التفنني وللتقدم"، وسكتت عن الكلام المباح. 


د. سهير الدفراوي المصري
www.anawanahnoo.blogspot.com
www.facebook.com/SouheirElmasry
twitter.com/Souheir_Elmasry

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون