الثلاثاء، 10 يناير 2012

هل الحل الأفضل للمشكلة أن نعلمهم كيف يصطادون بدلاً من أن نعطيهم سمكة، أم هناك حل أفضل؟


أولاً، أحب أن أعتذر لمن تضايقه أسئلتي الكثيرة، فقد لاحظت أن عددًا لا بأس به من مقالاتي يبدأ بسؤال.  وأنا أحب الأسئلة، فهي أفضل وأسهل طريقة لاكتشاف الحقيقة،

وعندما أسأل نفسي: "لماذا كل هذه الأسئلة؟" اكتشف أنني مهتمة بمعرفة الحقيقة، وربما سبب ذلك هو خلفيتي العلمية، فمن العلم، والصيدلة والطب تدرجت إلى إدارة المشاريع في شركة أدوية في شيكاغو، ومنها إلى الاهتمام بالطفل والعائلة في القاهرة.
أذكر أول يوم عملت فيه كمديرة مشروع في شركة الأدوية، قال لي رئيسي، ولم تكن خلفيته علمية، "إنزعي من فكرك أي فكر عن الحقيقة، فقد تعودت في المعمل أن هناك حقيقة تحاولون أنتم العلماء أن تكتشفوها، ولكن في الحياة وفي التسويق والدعاية لا توجد حقيقة، هناك تصور فقط". أذكر أن هذا الكلام لم يعجبني، أي نعم أعرف أن هناك ظروفًا كثيرة نتلاعب فيها بالحقيقة، ونجملها ونغير منها ولكنها لا تختفي، إنها تبقي  في الخلفية، أو هكذا اعتقدت.
عندما كتبت كتاب أناME إكتشفت أن أولادنا عندما يبدئون الكتاب يستغربون أسئلته الكثيرة، وقد تأكدت من هذا الاستغراب عندما ذهبت أنا وحفيدي حسين، وعمره 13 سنة، لزيارة إبني في شيكاغو. جلسنا نتزاور مع زوجة إبني، وهي إبنة رجل أعمال مصري وأم مصرية، ولكنها ولدت ونشأت في أمريكا فثقافتها أمريكية.
أخذت زوجة إبني تسأل حسين أسئلة كثيرة عن المدرسة، والمواد التي يحبها، وماذا يعجبه فيها، والمواد التي لا يحبها، ولماذا، وماذا يريد أن يدرس في الجامعة، وأين يريد أن يدرس، في مصر أم في أمريكا؟ وعندما تركتنا لحالنا إلتفت حسين إلى مستغربًا: "لماذا تسأل طنط كل هذه الأسئلة؟" هي تسأل لأنها تريد أن تتعرف عليه، وثقافتها علمتها الشفافية، والصدق مع النفس، والفضول، وهو يستغرب للأسئلة ربما لخصوصيتها أو لأنه لم يتعود أن ينظر في داخل نفسه ويسأل نفسه أسئلة كثيرة. 
كتاب أناME مليئ بالأسئلة، وفكرته الأساسية أن نستحث الأطفال بالأسئلة الكثيرة عن أنفسهم، وعن عائلاتهم، وعن كل ما يتصل بهم، فيتعلمون النظر في داخل أنفسهم، ويتعلمون كيف يكونون صادقين مع أنفسهم، فتصبح هذه الأسئلة أول خطوة لمعرفة أنفسهم، والاعتزاز بها، وعندما يكملون مشوار الأسئلة الكثيرة في كتاب أناME تجدهم ينفتحون، ويثقون في أنفسهم، وأستطيع أن أقول أنهم يصبحون أكثر نضجًا.
نرجع لموضوع السمكة والصيد.
لأنني مهتمة بالعمل التطوعي، فكثيرًا ما اسمع مقولة "أن تعلمه كبف يصطاد أفضل من أن تعطيه سمكة" وفكرة هذه المقولة هي أنه عندما تعطي سمكة لفقير فأنت تعطيه ما يغنيه عن الجوع يومًا واحدًا، ولكن عندما تعلمه الصيد فأنت تغنيه عن الجوع العمر كله.
تُطبق فكرة السمكة والصيد بطرق مختلفة، فهناك جمعيات خيرية تشتري للفلاح الفقير جاموسة، وعندما تلد الجاموسة تأخذ الجمعية عجلاً من إنتاجها، وتترك الجاموسة لتعطي من خيرها للفلاح الفقير، وجمعيات تعطي قرضًا دون فائدة لتساعد رجلاً في تأسيس كشك مشروبات وحلوى، أو لمساعدة سيدة في شراء ماكينة خياطة والعمل كخياطة، وهكذا. الهدف من هذه الأعمال الخيرية هو مساعدة الفرد في التحول من حالة فقر إلى حالة يسر مالية.
لاحظ أنني أقول "تحول". مرحلة التحول مرحلة حرجة، ويجب أن تدار بكفاءة حتى يستطيع التحول أن يعطي ثماره.
وفي خمسينيات القرن الماضي، عاشت مصر بعد قانون الإصلاح الزراعي فترة تحول من أخطر المراحل في تاريخها، فالفلاح الذي كان يعمل بالأجر في الأرض أصبح بعد القانون مالكا لخمس أفدنة، ولم يكن متعلمًا، وكان فقيرًا وثقافته التي لازمته في الفقر لم تعلمه كيف يخرج من دائرة الفقر، أو كيف يتعامل مع الثراء، ولكن الخمسة أفدنة جعلته نسبيًا غنيًا، فهو "صاحب طين"، وفي ثقافته، الغني يستطيع أن يفتح بيتين، فتزوج مرة أخرى، وكان يحتاج لأياد عاملة تساعده في الأرض، فأنجب العدد الكبير من الأولاد، وقبل ذلك، كان أولاده يموتون في سنوات حياتهم الأولى، ولكن بعد قانون تكليف الأطباء الجدد للعمل في الريف، عاشت نسبة كبيرة من أولاده، وزاد عدد سكان مصر بطريقة خطيرة، ونتيجة ذلك، أنه في الستين سنة الماضية نقصت ملكية أحفاد من أعطتهم الثورة خمسة أفدنة فاصبحت أحيانًا قيراطًا أو أقل للفرد الواحد.  
كانت نية المسئولين تجاه الفلاح الفقير نية حسنة، ولكن النية الحسنة لا تكفي، فعندما لم يُهيأ الفلاح للتحول إلى مالك  للخمسة أفدنة أهدر قيمة هذا التحول، لأنه لم يتعلم كيف يخرج من دائرة الفقر، وأصبحت ذريته فقيرة، وأخشى ما أخشاه أننا لم نتعلم من تجربتنا في الإصلاح الزراعي ونعيدها مرات عدة الآن.
كيف ذلك؟ كما لم يهيأ الفلاح للتحول الناتج من الخمس فدادين، فالجمعية الخيرية التي أعطت الجاموسة كثيرًا ما لا تهيأ صاحب الجاموسة للتحول بعيدًا عن الفقر، فهدفها هو أن يمتلك الجاموسة ليستطيع إطعام نفسه، فتتعجل استرجاع ما استثمرته، أي تأخذ في سنوات المشروع الأولي العجل وهو نصيبها من الجاموسة، وتتحول إلى مشروع آخر مع صاحب جاموسة أخرى دون أن تكون قد عملت على إكساب صاحب الجاموسة الأولى مهارات حياتية تساعده على البقاء خارج دائرة الفقر، فدون هذه المهارات الحياتية سيتصرف بطريقته التي لازمته طوال حياته والتي أبقته فقيرًا، فلن يخطط للمستقبل أو يدخر، أو ينظم أولاوياته، (فقد يتصرف على أنه غني الآن فيبيع جاموسة ليزوج إبنه) ولن يستطيع الخروج من دائرة الفقر، وفي مدى بضع سنين يضيع مفعول التحول الناتج من الجاموسة.
صحيح أنه أفضل من أن نعطي الفقير سمكة ليأكلها فنغنيه عن الجوع يومًا، أن نعلمه كيف يصطاد ليطعم نفسه طول عمره، ولكن الأفضل من كل ذلك أن نعلمه كيف يصطاد سمكا يزيد على حاجته وأن يبيعه، أي نكسبه مهارات حياتية تساعده على البقاء خارج دائرة الفقر طول عمره وعمر من يعول، ولذلك، نحن مهتمون بتعليم المهارات الحياتية المهمة للنجاح في الحياة.
وهنا قالت شهرزاد: "كفانا كلامًا عن السمك والصيد، لقد فهمتم ما أعني"، وسكتت عن الكلام المباح.

د/سهير الدفراوي المصري

هناك تعليق واحد:

  1. "صحيح النية الحسنة لا تكفى "
    هذه المقولة من اليوم سوف تتردد فى ذهنى الى الأبد
    لذا يجب علينا ان نقوم بعملنا على اكمل وجه ولا نكتفى بقولنا " كانت نيتى خير " صحيح قد تكون النية ولكن قد تكون العواقب جسيمة

    شكرا يا دكتورة على النصايح الغالية دى
    محمد زغلول

    ردحذف

المتابعون