الأربعاء، 15 أغسطس 2012

إلى وزير التعليم: الإجابة النموذجية


بعد عودتي إلى مصر كنت أتناقش مع حامل شهادة دكتوراة في موضوع علوم إنسانية قريب من اختصاصه، فوجدته يقدم لي حججًا لما يقول ويؤكد بثقة تامة أن السبب هو 1و2و3و4.

أذكر أنني استغربت من ثقته أن السبب هو 1و2و3و4، وليس 1و2و3و4،5 أو1و2و3، وقلت لنفسي "هل هو يُسمِّع ما حفظ؟"، وخزنت هذه الملاحظة على أنها شيء لا أفهمه. 

وبمرور الوقت وجدت أن هذه ليست حالة فريدة: فالناس كثيرًا ما تُسمِّع معلومات حفظتها!! المعلومات في ذاكرتها معروفة ومنمرة ومُتأكد منها! هناك ثقة تامة في المعلومات. هذه الثقة التامة كانت غريبة عليَّ. لقد عشت في 
مجتمع لم ألاحظ فيه ظاهرة الثقة التامة في المعلومات، وعندما كنا نتناقش كانت ثقتنا في معلوماتنا نسبية . ثقة قد تزيد أو تنقص نتيجة للمناقشة، فمثلاً إذا كنا نتناقش في حل للتعليم، وكنت أثق بنسبة 80% في الحل الذي أقدمه، قد أجد بعد المناقشة أن ثقتي في الحل قد زادت إلى 90% أو قد نقصت إلى 40% وأصبحت لا أثق أنه أفضل حل.

ومع النسبية في الثقة في المعلومة كانت هناك مرونة في التعامل معها. ثقتنا فيما نعرف كانت ديناميكية وتتغير، وكنا لا نجد حرجًا في أن نعترف أننا لم نكن على حق أو أننا اقتنعنا بوجهة نظر الآخر. وأذكر أن مصر التي عشت فيها منذ 40 سنة لم تكن تختلف عن المجتمعات الأخرى.

بينما مصر الحالية ظهر فيها شيء مختلف.

ظهرت فيها فئة متأكدة من معلوماتها تأكدًا تامًا، وهي بالتالي لا تقتنع البتة برأي الآخر!!

ماذا حدث؟

وبدأت أدون ملاحظاتي من الردود التي كانت تصلني على المدونة، ومن معاملاتي مع شبابنا عن طريق المؤسسة، فبجانب الشباب المصري الذي نشتكي من فهلوته وعدم جديته، لاحظت فئة جديدة: شباب (وشابة واحدة)، مسلم، جاد، ذكي، كان مجتهدًا في الدراسة، متدينًا، لديه مثل عليا، يعتز بنفسه، وكثير منهم يعتقد أنه هو الوحيد الذي يفهم، يرى العالم من منظار أبيض وأسود، والأسئلة عنده لها إجابة واحدة هي إجابته لها.

بعد مقارنة هذه الصفات وصلت إلى تصور (أثق فيه بنسبة 85%!) أن ما حدث لمصر هو إلى حد كبير نتيجة نظام التعليم، فالأطفال منذ الصغر يذاكرون من كتب وملازم معلوماتها مضغوطة في بعض النقاط، وإذا حفظ الطالب عن ظهر قلب كل هذه النقاط وكتبها كلها في الامتحان، تكون هي الإجابة النموذجية، فيأخذ 100%، وإذا قام بنشاطات إضافية فممكن أن يتخرج بأكثر من 105%!

قارن هذا بالمدارس الفرنسية (الحقيقية، وليست اللغات الفرنسية) حيث يهنئك المدرس إذا حصلت على 65% في مادة الإنشاء لأن متوسط الفصل ينجح بـ55%! كذلك، أذكر أنني في أول سنتين في دراستي للدكتوراه في ولاية مينيسوتا وكنت أدرس العلوم الطبية مع طلبة الطب استغربت أن يعطونا امتحانًا لنحله في 30 دقيقة، وهو مكون من عدة أسئلة لن يستطيع أحد أن يقرأها، ولا أقول أن يفهمها ويحلها في 30 دقيقة، ولما استفسرت عرفت أن هذا الإعجاز مقصود لكي لا ينجح طالب الطب بأكثر من 80% حتى لا يصبح طبيبًا يغتر بنفسه ويعتقد أن عنده كل المعلومات!!

هكذا يفكرون، وهكذا نفكر.

الدكتور الذي قرأ مئات الصفحات، ودرس مئات الحالات يُطلب منه التواضع، ونحن نخلق أجيالاً لم تعرف أكثر من معلومات الملازم، فهي تعرف قليلًا، لا تقرأ لغات أجنبية وتحتقر كل ما هو غريب دون أن تحاول أن تفهمه، ومع ذلك، فثقتها تامة أن عندها كل المعلومات لأنها كانت تأتي دائمًا بالإجابة النموذجية، وهي لم تتعود أن ترى رأيًا آخر، فهي لا تتقبل الرأي الآخر.

وإذا لم تثقف هذه الفئة من نفسها في الحياة ولم تتعلم كيف تنظر إلى الأمور من وجهات نظر مختلفة بقيت ضحية لنظام تعليمي أصفه بالمجرم، شوه فئة واعدة ومهمة من مجتمعنا كان من المفترض أن يرعاها وينميها.

وهنا قالت شهرزاد: "ربما هناك أسباب أخرى لظاهرة الثقة التامة بالمعلومات سنقدمها مستقبلاً"، وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري

هناك 5 تعليقات:

  1. دكتور \محمد كمال مصطفى18 أغسطس 2012 في 2:03 ص

    كل التحية وكل التقدير لك على كل ماتكتبيه خاصة هذه المقالة الرائعة التى اضافت الى وحركت عقلى نحو افاق لم اكن افكر فيها وكل سنة وانت طيبة

    ردحذف
  2. تعليق من : سلمي مصطفى زهران :-

    احب اشارك في الموضوع ده و اقول ان مصر لا تعيش في حالات انغلاق عائلي كامل بل جزئي
    نحن في مصر لا نقتصر علي الزكاة فقط بل نساعد و انا اقول ذلك و انا اراي مدينتي ميت غمر كنموذج امامي اعيش فيه
    انا و زملائي نتطوع في عمل الخير دائما مما يدل علي اننا نمتلك ثقافه تربينا عليها إن مصر في حاله ضعف بعضنا مازال يخاف الحقيقه ولكن اكثر الناس الان لا يخاف لقد تربينا علي اشياء في العهد القديم و نحن الان نكسر القيود و لكن ان ما تعانيه مصر هو نقص الخبره نحن نكذب علي انفسنا و نقول اننا نعلم يجب ان نفعل مثل ما فعمل محمد علي في القرون الماضيه عندما استعان بخبرة من الخارج و جعل ابنائنا يتلقون العلم في الخارج و اقام باصلاحات و لكن علينا ان نتذكر انه لم يبني مصر في يوم وليله و لكن اخذ يبني فيها سنين نحتاج ان نقوم بالتوعيه السياسيه و الثقافيه عن كيفيه تاسيس حياة و لنضرب مثل الطالب في الجامعه يفكر في تاسيس حياة مستقله فهو لا يبني نفسه في يوم و ليله بل يخطط جيدا ثم يفكر عن العمل ثم الشقه ثم الزوجه و هكذا يجب ان نفكر في المدي البعيد و ليس اليوم اليوم نفكر لبناء الغد
    سلمي مصطفى زهران

    ردحذف
  3. رد الدكتور سهير علي سلمي :-

    أنا أوافقك على أننا في بعض الأماكن لا نعيش في انغلاق عائلي كامل، وعليكم أن تحاولوا أن تتغلبوا عليه، وربنا معنا جميعا
    د/سهير

    ردحذف
  4. عزيزتى د. سهير
    ما يحدث ليس لة علاقة بالمقدار ثقة الفرد فى المعلومة التى يقولها و لكن لها علاقة بمقدار رغبتة فى أثبات الذات
    الموضوع الان تحول ليكون مناظرة جدية لاثبات ذات المتكلم و كان دحض او التاكد من الراى الذى يقولة هو على علاقة مباشرة بكيانة ووجودة و هذة هى الازمة

    ردحذف
  5. رائع كلام حضرتك دكتور .. بس للاسف هو ده تعليمنا في بلدنا

    ردحذف

المتابعون