الاثنين، 9 أبريل 2012

علم النفس والإعلام والعلاقات العامة -2


في المدونة الماضية قدمنا موضوع شركات العلاقات العامة الأمريكية العملاقة، وشرحنا سبب كونها عملاقة، وأنها لا تمت بصلة لأقسام العلاقات العامة التي تعودنا أن نراها في الشركات، فهي عملاقة، قوية تستمد قوتها من صلتها الحميمة مع مراكز القوى في الكونجرس وفي الحكومة وفي الإعلام، ومن موظفيها الذين كان الكثير منهم إما خريجي الكونجرس والجيش والحكومات السابقة، أو يحملون درجات الدكتوراة في علم النفس، وهؤلاء يتفننون في كيفية التأثير على المشاهد أو القارئ وجعله يفكر ويسير في الطريق الذي ترسمه له شركات العلاقات العامة.
ولأن هذه الشركات قوية وعملاقة فكثيرًا ما تستغل قوتها في أعمال شبه غير قانونية، وعلاقاتها مع مراكز القوى تساعدها على ذلك، فنجد أحيانًا مراكز القوى تتستر عليها، ولكن وجود قوانين واضحة وصارمة ووجود جمعيات أهلية تلاحظ عملها يحد من قوتها.

ثم قدمنا مثلا بسيطا لعمل شركات العلاقات العامة، وهو الـ VNRحيث تقدم هذه الشركات ضمن برامج الأخبار التلفزيونية مقطعًا يظهر فيه من تريد الشركات من المشاهد أن يعتبره أخصائيًّا فهو يلبس معطف الطبيب ويتجول في المستشفى، أو يقف أمام مكتبة مكدسة بالكتب، والإيحاء أنه أخصائي فيجب أن نصدقه، ويجعلونه يقول ما يريدون أن يقول، ويصدقه المشاهد لأنه لا يعلم أن هذا إعلان مدفوع الأجر.

وفي هذه المدونة نقدم قصة شركات العلاقات العامة في حرب الخليج الأولى، وهي قصة كلاسيكية تدرس في الجامعات ويحق لنا أن نقدمها هنا من الناحية التاريخية والعلمية، وليس من الناحية السياسية، فبقدر الإمكان أحاول ألا أقحم المدونة في النواحي السياسية.

ما بين 1980 و1988 كان صدام حسين حليفًا للولايات المتحدة الأمريكية التي أمدته بالمساعدات في حربه مع إيران، وأغمضت عينيها عن الفظائع التي كان يرتكبها ضد شعبه من الأكراد وغيرهم. وفي أغسطس1990 عندما كانت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية تزور صدام حسين شكى لها أن الكويت كانت قطعة من العراق، فتعاطفت معه معلنة أن الشعب الأمريكي لا يعرفه وتتمنى أن يظهر في التلفزيون الأمريكي حتى يعرفه الشعب. هل اعتبر هذا موافقة من أمريكا أن يهجم على الكويت أم كانت هذه كلمات دبلوماسية وهو أخذها على محمل أكثر جدية مما كانت تعنيه السفيرة؟ لا نعرف وليس عندنا طريقة الآن للتأكد من ذلك.

بعد أسبوع من اجتماعه مع السفيرة الأمريكية هجم صدام على الكويت.

الكويت لم يكن البلد الذي تهتم أمريكا بأن تدافع عنه، فقيمه لم تكن ديمقراطية، وفي سنة 1986 فض الأمير الجمعية العامة، التي لم يكن لها أصلاً دور قوي، ولكن الكويت كان غنيًا بالنفط، وكان ما يهم أمريكا أن تجد نفطًا بثمن بخس، فقرر الرئيس بوش الأب أن يحارب صدام ليحرر الكويت.

لكن بوش كان يعرف أن مشروع تحرير الكويت مشروع صعب وسيتكلف مليارات الدولارات، ويعرف أيضًا أن الشعب الأمريكي لن يتقبل المشروع لأنه لا يريد أن يدخل في حرب في الشرق الأوسط. فكان السؤال: "كيف ستشرح الحكومة للشعب الأمريكي أنها تحارب الآن حليفها السابق لتدافع عن نظام أوتوقراطي بعيد عن الحرية والديمقراطية والمثل التي تؤيدها أمريكا؟"

هنا جاء أمير الكويت وفتح حافظته وجعل المال يسيل منها دون حساب. عين أكبر شركة علاقات عامة في العالم واسمها "هل ونولطن" Hill & Knowlton لتشرف على مشروع تحرير الكويت، وتغاضت وزارة العدل عن طلبها من هل ونولطن أن تسجل نفسها كوكيل لأجانب، وعينت الشركة عشرين شركة أخرى لمساعدتها (أي نعم، عشرين شركة)، بدءًا من "رندن جروب" The Rendon Group المعروفة باتصالها بالمخابرات الأمريكية، إلى "نيل وشركاه" Neil & Co,، إلى "ورثلن" Wirthlin التي تتخصص في الأبحاث. وعملت هل ونولطن استراتيجية كاملة تدرس الآن في الجامعات وتعطى كمثل في كيفية التحكم في الشعوب.

أولاً: كونت ما يسمى "مواطنون لكويت حر" وهي واجهة زائفة مكونة من 78 عضوًا فقط، ولم يتبرعوا بأكثر من 18000 دولار وكل التبرعات، الـ11 مليون دولار، جاءت من الحكومة الكويتية، وذهبت تقريبًا كلها إلى هل ونولطن.

كذلك، كونت هل ونولطن مجموعتين زائفتين تعمل عن طريقهما، وهما "ائتلاف الأمريكيين الذين هم في خطر"، و"فرقة مهمة الحرية"، وكان الائتلاف قد تكون في حرب الكونترا في نيكاراجوا، ومات بعد الحرب، ثم أحيته هل ونولطن ليعمل في حملة تحرير الكويت. يحق لنا أن ننبه القارئ إلى أن هذه لعبة معروفة تقوم بها شركات العلاقات العامة: تخلق هيكل مجموعة باسم جذاب، وتأتي لها بالمال، وبالاستراتيجية، وتحركها كدمية تتحرك بالخيط. لن نعرف إذا كان "حزب الكنبة" في مصر هو أيضًا من تأليف شركة علاقات عامة، ولكني أكاد أجزم أن حملة التمويل الأجنبي كانت منظمة من شركة علاقات عامة لأنها كانت منظمة كعمل أوركسترا.

قبل عودتي إلى مصر منذ عشر سنوات كنت قد عشت في أمريكا أكثر من ثلاثين عامًا رأيت فيها كل أنواع التحكم في فكر الشعب الأمريكي خصوصًا ما يختص بمشكلة فلسطين وإسرائيل، لدرجة أنني الآن أستطيع أن "أشم رائحة" عمل شركات العلاقات العامة.

كون هل ونولطن جيشًا من 50 محاضرًا يحاضرون في الجامعات وفي الأندية بطريقة مستمرة ويظهرون الظلم الذي حل بالكويت، وجيش آخر من الكتاب يكتبون مئات من الرسائل والمقالات للصحف والمجلات، ويرسلون المئات من البيانات الصحفية، ويوزعون في الجامعات آلافا من الـ" تي شرتات" مكتوبا عليها "حرر الكويت"، ومن الملصقات التي توضع على مؤخرة العربات وتناصر الكويت، ويعملون بمساعدة 119 موظفا إداريا، و12 مكتبا لهل ونولطن في الولايات المختلفة!! كانت حملة إعلامية بمعنى الكلمة، حضر لها هل ونولطن عشرات من الـVNR ووزعها على محطات التلفزيون، وساعد على عقد مئات من المقابلات التلفزيونية.

كانت شركة ورثلن، وهي ذراع الأبحاث التي تساند هل ونولطن، تقوم يوميًا باستبيانات تقيم بها مفعول العمل الذي تقوم به شركة هل ونولطن، وتوصي بتغييرات في العمل، ومن الطريف أن شركة ورثلن طلبت من السفير الكويتي أن يغير من ملبسه ومن شعره ليؤثر أكثر على الشعب الأمريكي!

من المعروف أنه في كل حملة إعلامية ناجحة هناك "خطاف" يشد انتباه الناس ويتسبب في نجاح الحملة. الخطاف في حملة تحرير الكويت كان قصة الأطفال في حضانات المستشفيات. في اجتماع "تجمع حقوق الإنسان في الكونجرس" استمع الحاضرون إلى شهادة شابة كويتية سنها 15 واسمها نيرة، ولم يرد التجمع أن يفصح عن اسمها بالكامل حتى لا تتعرض للضرر عندما ترجع إلى الكويت. بكت نيرة وهي تقص أنها رأت بعينيها الجنود العراقيين يدخلون المستشفى ويأخذون الأطفال من الحضانات بعيدا عن الأوكسوجين، ويلقونهم على الأرض ليموتوا. تخاطفت وكالات الأنباء هذه القصة، ورددها بوش، وحُكيت في الأمم المتحدة، وعملت ضجة كبيرة، وكانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فقبلها كان 48% فقط من الأمريكان يحبذون الحرب على العراق، ولكن بعدها زادت الموافقة على الحرب كثيرًا.

ظهر فيما بعد أن هذه القصة ملفقة ومستوحاة من حادث في الحرب العالمية الأولى قيل فيه إن الجنود الألمان يقتلون الأطفال في المستشفيات، وظهر أن نيرة هي ابنة السفير الكويتي سعود ناصر الصباح، وأن شركة ورثلن هي التي مرنتها على الشهادة الزور، وأن والدها كان حاضرًا في شهادتها!! هي فضيحة.

ولكن لم تظهر الفضيحة إلا بعدما لم يعد قيمة أن تظهر الحقيقة، فكما قال نابليون: "لا داعي أن تخبئ الأخبار إلى الأبد، يكفي أن تخبئها إلى أن لا يكون لها أهمية".

هل شهدت نيرة شهادة زور بعد أن أقسمت أن تقول الحق؟ إذا كانت شهدت شهادة زور بعد القسم فمصيرها السجن، ولكن ما حدث هو أنها لم تشهد أمام لجنة حقوق الإنسان في الكونجرس، اللجنة الرسمية التي تتطلب القسم، هي شهدت بدون قسم أمام تجمع كونته هل ونولطن من 2 سيناتور وأعطته اسم "تجمع حقوق الإنسان في الكونجرس".

وهنا نتساءل: من كان يعرف كل ما حدث في حملة تحرير الكويت؟ كريج فولر هو مدير هل ونولطن، وهو صديق حميم لبوش وكان مديرًا لمكتبه عندما كان بوش نائب الرئيس ريجان. فهل أخفى فولر عن بوش ما كان يقوم به؟ هل الإعلام الأمريكي لم يكن يعلم ما تقوم به شركة هل ونولطن؟ مما لا شك فيه أنه كان يعرف الفرق بين اللجنة الحقيقية والتجمع الذي خلقته شركة العلاقات العامة، فهل أغمض عينيه وكان شريكا في العملية كلها؟ سنناقش هذا الموضوع مستقبلاً.

بدأت حرب أمريكا لتحرير الكويت، ولكن دور شركة العلاقات العامة لم يكن قد انتهى. شحنت أمريكا مئات الآلاف من الجنود والمعدات إلى السعودية، وكان من المفروض أن يصاحبهم صحفيون ليُعرفوا الشعب الأمريكي مجرى الحرب، ولكن رسالة من البنتاجون أكدت أنه لا يجب أن يترك الجيش الصحفيين يتجولون بحرية ويظهرون للشعب الأمريكي الصورة الحقيقية للحرب، فبإيعاز من شركة العلاقات العامة كانت الحكومة السعودية ترفض منح التأشيرات للصحفيين، فيتوسط البنتاجون ويضع شروطه على الصحفيين!! كانت نتيجة ذلك أن الصحفيين قدموا للشعب الأمريكي الصورة التي رسمها البنتاجون مع شركات العلاقات العامة أن الحرب كانت نظيفة وهدمت فقط المباني دون أن تؤثر على العراقيين!!

غضب بعض الصحفيين عندما اكتشفوا أنهم خدعوا، وتستطيعون أن تعرفوا تفاصيل أكثر من كتاب: Toxic Sludge is Good for You by John Stauberوفي الكتب أسرار مهمة.

وهنا قالت شهرزاد: "قصص كثيرة نريد أن نقصها" وسكتت عن الكلام المباح.

د/سهير الدفراوي المصري

هناك تعليقان (2):

  1. شكراً د.سهير..

    كما تذكرت الآن حملة invisible children - Kony 2012
    وطبقاً للحملة فإنها تسعى لمساعدة الأطفال المتضررين من تصرفات جوزيف كوني الذي كون جيشاً من الأطفال (Lord Resistance Army) في أوغندا، ويجب القبض عليه بنهاية 2012.. إن تلك الحملة كما هو مبين في الفيديو الإعلامي لها تظهر كيف أن موقف الحكومة الأمريكية قد تحول من التجاهل إلى الدعم وذلك نتيجة لضغط الشعب الأمريكي.وحسب ما يظهر في الفيديو فإن الحكومة قامت بإرسال فرق عسكرية لتدريب القوات الأوغندية لوقف كوني.

    وعلى النقيض ظهرت صفحات تقول أن كوني قد مات منذ فترة وأن كل التهم قد سقطت عليه وأن تلك الحملة ملفقة لجمع أموال أو لإسباب أخرى..

    بغض النظر.. يبدو جلياً دور شركات الإعلام في تحريك الجمع.

    ردحذف
  2. أتعلم من حضرتك سعة الأُفق دائما
    دُمتى لنا عالِمتُنا المُحبة؛

    ردحذف

المتابعون