الأحد، 1 أبريل 2012

علم النفس والإعلام والعلاقات العامة -1


في القرن الماضي حدثت طفرة كبيرة في علم النفس، ونتيجة لهذه الطفرة ظهرت أفكار جديدة لمعالجة مرضى الأمراض النفسية، وظهرت تطبيقات لعلم النفس في كثير من العلوم مثل علوم التربية والتعليم، والعلاقات الإنسانية، ونشرت الكثير من الكتب التي تسمى كتب المساعدة الشخصية أو.self-help books

وكانت هذه الطفرة مفيدة لأنها ساعدت الفرد أن يعرف نفسه ويعرف الآخرين، وأن يعرف كيف يتعامل مع نفسه ومع الآخرين، وكانت أيضًا مفيدة لأن تطبيقات علم النفس في كثير من العلوم ساعدت على تقدم هذه العلوم.


من علم النفس بدأت تتفرع تطبيقات في العلوم الأخرى، فطُبق علم النفس لتحديد صفات من يقوم بعمل ما، مثلاً، معرفة صفات من يشترى نوع منتج معين. فكانت هذه التطبيقات المعرفية مهمة للتسويق، ومهمة لتحديد سوق المنتج، فعلى سبيل المثال، عندما نقارن صبغة شعر (س) بصبغات شعر أخرى كانت تعتبر غالية الثمن، وأثبتت دراسة ميدانية أن من تشتري هذه الصبغة تعتز بنفسها ولا تستخسر في نفسها أن تدفع الثمن الغالي، فطُبقت هذه المعلومة في الإعلان عن صبغة شعر (س) فيقول إعلان صبغة شعر (س):"لا تستخسري، أنت تستاهليها"، فيشجع الإعلان السيدات ألا تستخسر أن تشتري هذه الصبغة الغالية، وهكذا استُعملت المعلومة المعرفية الناتجة من معرفة نفسية الشاري لتسويق المنتج.

هناك، في البلاد المتقدمة قوانين وقواعد تمنع الإعلام المكتوب من أن يقدم للقارئ دعاية مدفوعة الأجر على أنها معلومات معرفية غير منحازة. فهناك شفافية تامة تظهر بوضوح للقارئ إذا كان ما يقرأه معلومات إخبارية أو إعلانًا مدفوع الأجر، فنجد مجلات أو صحف هذه البلاد عندما تقدم إعلانًا تظهره صراحة أنه إعلان: "This is an advertisement". وقد يكون موضوع الإعلان موضوعًا معرفيًا يهم القارئ، ولكن بما أنه مدفوع الأجر فيجب أن يعرف القارئ أنه إعلان.

في الوقت الذي يظهر في البلاد المتقدمة الفرق واضحًا بين الإعلان المدفوع الأجر والمعلومات المعرفية غير المنحازة كثيرًا ما نجد في بلاد العالم الثالث مثل بلادنا أن الفرق مبهم، ذلك، لأنه في كثير من الأحيان لا توجد قوانين واضحة تحمي القارئ وتعرفه أن ما يراه هو إعلان. فمن مصلحة المعلن أن يظهر موضوعه في شكل معرفي أو إخباري غير منحاز حتى يتقبله القارئ أو المتفرج بمصداقية أكثر مما لو كان قد رآه كإعلان، وعدم وجود قوانين واضحة وصارمة تساعد المعلن على غش القارئ أو المشاهد.

على سبيل المثال أحيانًا ما نجد صحيفة تنشر ربع صفحة في برواز، وفيها صورة (مثل صور جواز السفر!) لمدير شركة طيران أجنبية، ومعها قصة أن هذه الشركة تفتتح خطًا جديدًا للطيران... إلخ، فنستنتج من شكل الموضوع أن هذا إعلان مدفوع الأجر، وأنه عندما يظهر في بلاد أخرى سيكتب فوقه "هذا إعلان"، ولكن عندنا نتهاون في حق القارئ في معرفة الحقيقة.

إعلان شركة الطيران من إنتاج قسم العلاقات العامة للشركة. وعندما ظهرت أقسام العلاقات العامة في الشركات كان دورها، كما يدل اسمها، هو رسم العلاقات بين الشركة والمجتمع، وتحسين صورة الشركة ومنتجاتها في المجتمع، أي كان دور العلاقات العامة دورًا بسيطًا غير مركب، تقوم به في كثير من الأوقات سيدة مجتمع متعلمة تعطي صورة جميلة للشركة أمام الإعلام. ومازال كذلك دور العلاقات العامة في بلاد نامية مثل مصر، ولكنه في العشرين أو الثلاثين سنة الماضية بدأ هذا الدور يختلف كثيرًا في الولايات المتحدة، وكان هذا إلى حد ما نتيجة للتقدم الكبير الذي حدث في علم النفس وفي تطبيقاته، وسأشرح ما أعني بذلك.

كما أظهرنا من قبل، فإن أوائل تطبيقات علم النفس كانت مبنية على رصد معلومات ناتجة من معرفة الحالة النفسية للفرد. ورأينا هذا في مثل صبغة الشعر. ومع تقدم علم النفس وتطبيقاته أصبح في مقدور من يطبقه ألا يكتفي برصد تغيير الفكر أو التصرف، ولكن أصبح في مقدوره أيضًا أن يتحكم في الفكر أو التصرف ويغيره!!

هذا موضوع خطير، إذ يستطيع من يتقن علم النفس أن يتحكم ويغير من فكر وتصرفات الآخرين!!

من استفاد من هذه القوة الهائلة لتطبيقات علم النفس؟

بجانب الأفراد والهيئات التي تقوم بعلاج المرضى النفسيين، فمن أكثر من استفاد من هذه القوة الهائلة كانت شركات العلاقات العامة في الولايات المتحدة (وأيضًا هيئات أخرى سنكتب عنها في أماكن أخرى).

ترعرعت شركات العلاقات العامة في الولايات المتحدة بالتزامن مع ازدهار نظام اللوبي الأمريكي. فهذا النظام يساند المشرع في الكونجرس ويعطيه الحق في أن يسمع وجهات نظر جهات المجتمع المختلفة فيما يشرع، لتساعده على القيام بواجبه التشريعي أحسن قيام.

من يقوم بدور اللوبي؟ هم شركات كبيرة للعلاقات العامة. هذه الشركات تختلف كثيرًا عن أقسام العلاقات العامة السابقة في الشركات. أولاً: هي تعين أعضاء سابقين في الكونجرس، وشخصيات مهمة في المجتمع، وتعطيهم رواتب كبيرة، ثانيًا: هي تعين أخصائيين في علم النفس، ثالثًا: هي تكون علاقات متينة مع مراكز القوى، مثل الكونجرس والوزارات المختلفة، وكذلك، مراكز الإعلام مثل الصحف والتلفزيون، رابعًا: هي تتقاضى أجورًا مرتفعة جدًا.

من الواضح إذًا أن هذه الشركات بما تقوم به من عمل تعني أن تحدث تغييرًا في المجتمع، وأنها تستطيع فعلاً أن تحدث هذا التغيير. وكما سيتضح لنا فيما بعد أن هذه الشركات هي مراكز قوة مندفعة تجاه التغيير الذي تبغاه، وأن هذه القوة والاندفاع يجعلانها تقترب من مواقف أو تصرفات غير قانونية، ولكن بما أن هناك في الولايات المتحدة قوانين واضحة وصارمة، وهناك جمعيات أهلية تقوم بما يسمى دور الـ watchdog أو كلب الحراسة، فإن هذه القوانين، وهذه الجمعيات الأهلية تمنع إلى حد ما هذه الشركات من أن تسيطر سيطرة تامة.

تعالوا نعطي في هذه المدونة وفي المدونات التالية بعض الأمثلة لما تقوم به هذه الشركات في الولايات المتحدة وكيف أنها قد بدأت تثبت وجودها في بلادنا.

أشرنا فيما قبل إلى أنه في الولايات المتحدة هناك قوانين واضحة للإعلان مدفوع الأجر الذي يجب أن يظهر كتابة أنه إعلان مدفوع الأجر. أما بالنسبة للإعلان على التلفزيون فلا داعي للجهر بأنه إعلان لأن هذا واضح. فتستغل شركات العلاقات العامة هذه الثغرة وتقدم ما يسمى VNR أوvideo news release وهي مقاطع فيديو تظهر في برنامج الأخبار على التلفزيون بين مواضيع الأخبار، وهي مدفوعة الأجر، فهي إعلان لفكرة أو منتج، ولكنها لا تقول ذلك صراحة فتغش المشاهد.

على سبيل المثال عندما تستعد شركة أدوية لأن تقدم في السوق دواءً لمرض ما، مثلاً للنزلة الشعبية عند الأطفال، فهي تدفع ملايين الدولارات لشركة علاقات عامة لتقوم بنشاطات مختلفة تهيئ الجو لاستقبال الدواء الجديد. من ضمن النشاطات تعمل شركة العلاقات العامة VNR فيديو يظهر طبيبًا يلبس معطفًا أبيض ويسير في مستشفى أطفال ويسأله الصحفي عن أهم المشاكل الطبية التي تواجه الأطفال الصغار، فيقول الطبيب (المدفوع الأجر) مثلاً أن النزلة الشعبية من الأمراض التي يتمنى أن يكون لها دواء آمن للأطفال الصغار، وأن هناك أبحاثًا في شركات الأدوية للتوصل لعلاج،.. إلخ، ويظهر الـ VNR على محطات التلفزيون، فتقوم شركة العلاقات العامة باستبيان لمعرفة مدى تأثيره على فكر المجتمع، وبناء على نتيجة الاستبيان تعمل شركة العلاقات العامة منتجًا إعلاميًا آخر، وتنشره، وتدرس تأثيره عن طريق استبيان جديد.

أترون ماذا يحدث؟ إن شركة العلاقات العامة تتحكم في تفكير الجمهور وتسيره في الطريق الذي ترسمه له!!

في سنة 2001 عندما كانت أمريكا تحاول أن تحارب إعجاب الشباب المسلم ببن لادن، كان هناك اقتراح بتقوية محطة "صوت أمريكا"، وزيادة ميزانيتها من مليون إلى عشرة ملايين دولار لتقاوم ميل الشباب لبن لادن وإعجابهم به. وفي هذا الوقت ظهر على برنامج أخبار الـPBS الدكتور مأمون فندي فيما اعتقدت أنه VNR فها هو يقف أمام مكتبة مليئة بالكتب (دائمًا يوحي الـ VNRبأن بطله أخصائي فيقدمه إما أمام مكتبة، أو في مستشفى أو في معمل حتى يسهل على المشاهد تصديقه) وقال ما معناه أن شباب الشرق متشوقون لسماع وجهة النظر الأخرى كما تظهرها محطة صوت أمريكا!!

وهنا قالت شهرزاد "القصص كثيرة، فابقوا معنا ستسمعون قصصًا عجيبة عن مايكروسوفت، والكويت وغيرهما" وسكتت عن الكلام المباح.

هناك تعليق واحد:

  1. شركات العلاقات العامة والاعلان والتسويق تقوم فعلا بدراسة الإعلان جيييييدا؛لكن طبعا يحسبون انه من حقهم خداع العميل عن طريق بعض الأفكارالضمنية التى يستخدمونها فى الترويج للمنتج
    وهناك الكثير يستخدمون الدعاية السوداء أيضا، ومعلاوفة بأشكالها لدى الكثير.

    موضوع جميل؛

    لكن؛الأهم كيف لنا أن نوقف المعلنين عن فكرة الخدع التى يستخدمونهاويؤثرون بها على العميل؟

    كيف يمكن للعميل أن يستخلص الفكرة النهائية للمنتج وأهميته بدون أى تدخل ضمنى من المُعلِن؟

    أتمنى أن تكون أيادى شركات التسويق والعلاقات العامة نظيفة فى فكرة التسويق لمنتجها؛لأنه إذا كان منتجها فعلا ذا جودةعالية لايحتاج كمّ التدخُل الضمنى الهائل منهم!

    ردحذف

المتابعون