الأحد، 16 يناير 2011

سؤال: لماذا الاهتمام بأسباب تقدم أو عدم تقدم البلاد الأخرى؟


بما أننا قد أنهينا الجزء الأول من موضوع "لماذا تتقدم بعض البلاد ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ العوامل الاجتماعية" فيحق لنا أن نتوقف، ونتفكر فيما أتممناه، وما نريد أن ننجزه فيما بعد. هذا التوقف هو بمثابة نقطة نهاية الجملة، أو فترة الهضم بعد الأكل. هو فترة عمل الترابطات بين الأفكار المختلفة التي قدمناها، أو التي ظهرت لنا، والاستفادة الحقيقية منها.
ومنذ سنتين وأنا أقرأ الكثير عن مفعول الثقافة على تقدم الشعوب، واصبحت عندي قناعة أن مفتاح قابلية مجتمع للتقدم يكمن إلى حد كبير في ثقافته، والمعروف أن ثقافة الشعوب ليست متحجرة، فهي تتغير طبقًا للظروف التي تمر بها الشعوب. وأوصلتني قراءاتي إلى أن هناك تجارب، ليست سهلة، ولكنها ممكنة، للتحكم في ثقافة المجتمع، وأن يحافظ المجتمع على ثقافته أفضل من أن يعمل على استرداد أجزاء مهمة منها بعد أن يكون قد أهدرها. فلنذهب إلى موريس شونفلد وهو من مؤسسي قناة (سي أن أنCNN) التلفزيونية الشهيرة.


يرى شونفلد أن التلفزيون عامل شديد التأثير على ثقافة المجتمع، (ويوافقه في هذا القول رونلد إنجلهارت، وكارلوس مونتانييه، وعلى ما أتذكر واحد منهما قال ما معناه أنه عندما يكتب في الجرائد يوافقه في الرأي ويتأثر به من هو أصلاً يفكر مثله، أما عندما يظهر في التلفزيون فيستطيع أن يغير فكر المتفرج، وهذا دليل على قوة التلفزيون في تغيير ثقافة المجتمع) وينصح شونفلد المجتمعات النامية التي تستشيره أن تحتفظ الدولة بالقنوات التلفزيونية لمدة 20 سنة، وألا تسمح بقنوات تجارية لأن القنوات التجارية تجري وراء المال، ولا يهمها الحفاظ على ثقافة المجتمع، فتقدم البرامج الهابطة التي قد تعجب الناس، وتأتي بالربح عليها فتضيع ثقافة المجتمع، وللأسف فما نراه الآن هو أن القنوات الحكومية لا تقدم برامج هادفة بل تتنافس مع القنوات التجارية في جلب الإعلانات وتقديم البرامج الرديئة، فتساعد على إهدار الثقافة. وينصح شونفلد الدولة في مقابل عدم تقديم قنوات تجارية، أن تعطي لبرامج التوك شو حرية كاملة في النقاش، وفي النقد الحر، القوي، لكي تحافظ على مصدقيتها وعلى تواصلها مع شعبها.
ويقص علينا شونفلد أن هيئة التلفزيون الصيني (سي سي تي فيCCTV) عندما رأت أن التلفزيون التجاري (أن دي تي ديNDTV) يقدم أفلامًا أمريكية قديمة، وأن هذه الأفلام قد تؤثر على ثقافة المجتمع الصيني، أقنعت هيئة القمر الصناعي (يوتلساتEutelsat) التي تستضيف قناة (أن دي تي دي) أقنعتها أن تلغي الإرسال، ثم ذهبت (سي سي تي في) إلى (Population Council International) وهي جمعية أمريكية، متصلة بالأمم المتحدة وتتخصص في إخراج أفلام ذات رسالة إجتماعية مستترة، وشاركت مع الجمعية في إخراج مسلسل نال نجاحًا هائلاً. ولأن الصين تعرف أهمية الثقافة للتقدم، فقد حافظت على ثقافتها ضد الغزو الأجنبي عن طريق استعمال أفكار وتكنولوجيا أجنبية.
وهناك تجارب كثيرة في التحكم في أوجه مختلفة من ثقافات المجتمعات، كثير منها في أمريكا الجنوبية. نقص هنا قصة Indehu إيندهو، وهو برنامج قام به أوكتافيو مافيلا، وكيل شركة موتوسيكلات هوندا في بلدة ليما في بيرو. هذا الرجل، بحكم عمله، كان يسافر كثيرًا إلى اليابان، ويلاحظ الفرق في التقدم بين اليابان، وبيرو، وتوصل إلى قائمة بعشر صفات، أسماها "الوصايا العشر للتقدم" يرى أن على بيرو أن تغرسها في الشعب فتساعد على تقدمه. هذه الصفات هي:
- النظام،
- النظافة،
- الدقة في المواعيد،
- المسئولية،
- إتمام العمل،
- الأمانة،
- إحترام حقوق الآخرين،
- إحترام القانون،
- أخلاقيات العمل،
- الإدخار.
و بدءًا من التسعينات في القرن الماضي تم تطبيق هذا البرنامج على أكثر من مليوني طفل في مدارس بيرو وكذلك، على العمال في الكثير من المصانع، وصُدر هذا البرنامج إلى بلاد أخرى في أمريكا الجنوبية. ومع إن هذا البرنامج لم يستمر أكثر من عشرين سنة، إلا أنه أظهر أن العمل الذي يهدف إلى تغيير ثقافة شعب يجب أن يتوجه إلى هدفه عن طريق أوجه مختلفة، بأدوات مختلفة، وعن طريق أكثر من شراكة مع هيئات مهمة. فبعد إيندهو، كون مهاجر ياباني في بيرو، كون مؤسسة فوروكووا التي كانت تعمل على تغيير ثقافة عمال المصانع عن طريق ثلاث إتجاهات: أولا العلاقة بين أفراد عائلة عامل المصنع، ثانيًا عن طريق "العشر وصايا للتقدم"، وثالثًا، عن طريق غرس أخلاقيات العمل ودوائر الجودة. وقد أثبتت الدراسات أن لكي نغير ثقافة شعب يجب أن تتكاتف لهذا الهدف كل من العائلة، والهيئة الدينية، والتلفزيون، والإعلام، والمدارس لتوصيل رسالة التغيير إلى الشعب.
وهناك أعمال كثيرة لتغيير أوجه من ثقافة المجتمعات. فمركز NSIC الأمريكي يعمل على خلق ثقافة احترام القانون في المكسيك، وكولومبيا، والسلفادور، وبيرو، ولبنان، ويعمل ذلك عن طريق المدارس، والتلفزيون.
لماذا أكتب عن أسباب تقدم بعض البلاد وعدم تقدم بلاد أخرى؟ لا أكتبها حتى نشعر بالحسرة أننا لا نتقدم مثل البلاد الأخرى، ولكن لأضيف معلومات عن تجارب الآخرين لكي نتعلم منها، ولقد أهدرنا في السنين الماضية الكثير من ثقافتنا عن طريق برامج تلفزيونية تعلم المشاهد طرق كلام ومعاملة هابطة، وربما لم نكن نتصور مدى تأثير هذه البرامج على ثقافة المجتمع، ولكن الآن، وقد رأينا تغيير جذري في أخلاقيات المجتمع، وعرفنا أهمية التلفزيون لتغيير ثقافة الشعب، ورأينا أيضًا أن تغيير الثقافة تتطلب أن تتكاتف الجهود المختلفة من الإعلام، والعائلة، والمدرسة والهيئة الدينية، فعندي أمل أن نخطط، ونعمل بجدية لاسترجاع ثقافتنا.
وقبل أن ننهي هذه الجزئية أحب أن أوضح أننا نستطيع، كل فرد على حدى، أن نساعد على تغيير ثقافة مجتمعنا، فمثلاً عندما نعمل على ترسيخ ثقافة سيادة القانون، نبدأ بأنفسنا، باحترام النظام في حياتنا، النظام في المرور، والنظام في العمل، ونطبق هذا الفكر في أوجه أخرى من الثقافة، مثل النظافة، والادخار، والدقة في المواعيد.
وهنا قالت شهرزاد "لقد أعطيتكم مواد كثيرة للتفكر، وإلى لقاء آخر الأسبوع القادم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون