الأحد، 13 يناير 2013

التنافر المعرفي


التنافر المعرفي cognitive dissonance من أهم مواضيع علم النفس الاجتماعي، وهو يعني التنافر الذي يحدث عندما نتعرف على معلومة تتعارض مع معلومة مهمة نمتلكها ونثق بها، فهنا لا نعرف كيف نحافظ على كل من المعلومتين المتعارضتين. ومعرفة التنافر المعرفي مهمة لأنها تساعدنا على فهم العوامل الأساسية في التواصل، وفي إقناع الآخر، وفي تكوين مجتمع متواصلاً فكريًا.

وقبل أن نحاول أن نفهم عوامل التنافر المعرفي، ولماذا يجب أن نهتم به؟ وما ضرره وكيف نتعامل معه؟ قبل أن نقدم كل هذا أحب أن نتعرف على موضوعين، واعذروني إذا بدأت بملاحظات مبسطة.




الموضوع الأول: هو عن المخ وعمله. بطريقة بسيطة نستطيع أن نقول أن مخنا مكون من جزئين: الجزء الأول: هو المخ البدائي، المتواجد في كثير من الكائنات الأخرى مثل الشمبانزي والكلب والتمساح، ويسكن في قلب المخ، ويتكون من أجزاء مثل الجهاز الحوفي والمهاد. وهذا المخ البدائي يعمل على الحفاظ على الكائن فينظم تناسله، ويظهر فيه العواطف المختلفة، وما يحتاجه من وظائف غير إرادية مثل إفراز الهرمونات أو ضبط ضغط الدم. والجزء الثاني: من المخ هو نصفي الكرة المخية الذي يجلس فوق الجزء البدائي ويحيطه مثلما تقبض يدك على كرة بنج بونج فتحيط يدك الكرة وتغطي معظمها. وحجم نصفي الكرة المخية بالنسبة للمخ حجم كبير في الكائنات المتقدمة مثل الإنسان، وصغير في الحيوانات البدائية مثل التمساح. ويقوم نصفي الكرة المخية بالتفكير العالي والتحليل، وتنسيق حركة اطراف الجسم، إلخ...، والطبقات الخارجية منه هي التي تقوم بالأعمال التي تدل على درجة عالية من الذكاء مثل التحليل، والفكر التجريدي.

وهناك اتصالات بين جزئي المخ ينتج عنها أن يشرف نصفي الكرة المخية على أعمال المخ البدائي.

والموضوع الثاني: الذي أحب أن نتعرف عليه هو علم الأجنة وكيف يتكون المخ في الجنين. أول جزء يظهر في مخ الجنين هو المخ البدائي الذي يتكون عندما تهاجر أوائل الخلايا إليه، وبعد ذلك تهاجر الخلايا التي تكون الطبقات الداخلية من نصفي الكرة المخية، وأخيرًا تهاجر الخلايا التي تكون الطبقات الأكثر خارجية في المخ، فهكذا يتكون المخ من الداخل إلى الخارج، ومن البدائي إلى الأكثر تقدمًا.

 


صورة مقطعية عمودية للمخ تظهر قشرة المخ تحيط بالجهاز الحوفي والمخ البدائي

نحن نهتم كثيرًا بعمل المخ لأننا محكومين بهذا الكمبيوتر الرائع فمن مصلحتنا أن نعرف كيف يعمل، والتقدم التكنولوجي يساعدنا في هذه المعرفة، فالرنين المغناطيسي الوظيفي، fMRI، والتصوير المقطعي بالاصدار البوزيتروني، PET scanning، قد جعلا في مقدورنا أن نعرف بالضبط كيف تعمل أجزاء المخ المختلفة، بل وخلاياه أيضًا، فعلى سبيل المثال عندما نقوم بعمل ما، كأن نقرأ، أو نحل مسألة حسابية نستطيع أن نرى الخلايا المعينة التي تقوم بهذا العمل وهي تؤديه، وذلك، عن طريق زيادة في استعمالها للأكسوجين الذي نرصده عن طريق الرنين المغناطيسي الوظيفي، أو في استعمالها للجلوكوز الذي نرصده عن طريق التصوير المقطعي بالاصدار البوزيتروني.

ما صلة المخ وعمله باهتمامنا بالتنافر المعرفي؟ الصلة: هي ما لاحظته بعدما عدت إلى مصر، بعد أكثر من الثلاثين عامًا في الولايات المتحدة. وجدت من ضمن التغيير الذي حدث لشعبنا أننا أصبحنا لا نقتنع. شيء غريب! مقارنة بما كنا عليه، وبما عشته في الغربة نحن أصبحنا قليلي الاقتناع... في الماضي عندما كنت أشرح وجهة نظري إلى زميل كنت أحياناً استطيع أن أوصلها إليه فيقول بحماس "والله أنك على حق"، وكأنه كان في حجرة مظلمة وفتح الشباك على آخره فدخل النور ورأي ما لم يكن يراه من قبل. كان يظهر تغييرًا قويًا. ولكن الآن أجد أننا قليلاً ما نقول بحماس "والله أنك على حق". لا نقتنع. أقدم الحجج المنطقية، وأعرف أن من اتناقش معه متعلم، ولا بد أن يكون تفكيره منطقي، ومع ذلك، لا يقتنع. يأتي بحجج متصلة بموضوع المناقشة ولكنها ليست حجج حقيقية، فيظهر بوضوح أنه يقاوم الاقتناع. أي لا يفتح الشباك ليدخل النور.

لماذا لا نقتنع؟ لماذا لا نريد أن نقتنع؟ أسئلة شغلتني... اعتقدت في الأول أن مشكلتنا أننا لم نتعلم التفكير المنطقي، فبدأت أحضًر لتعليم شبابنا التفكير المنطقي، وأثناء دراستي لهذا الموضوع تعرفت على كتابين: كتاب The Republican Brain by Chris Mooney (المخ الجمهوري للكاتب كريس موني) ، وكتاب The Righteous Mind by Jonathan Haidt (عقل من يعتقدون أنهم على حق للكاتب جوناثان هايدت)، اظهرا لي أن الموضوع ليس موضوع تفكير فحسب بل هو موضوع عاطفة.

ومن هذين الكتابين تدرجت إلى دراسة كيف نفكر؟ وكيف نقتنع؟ وإلى التنافر المعرفي. وجدت أنه عندما تصلنا معلومة جديدة وتكون متنافرة مع معلومة أخرى أصلية عندنا، معلومة اكتسبناها في الصغر، أو متصلة بهويتنا أو بصورتنا عن أنفسنا، أي معلومة مهمة متصلة بالمخ البدائي، فسنتعامل مع تنافر المعلوماتين بناء على طبيعتنا، وعلى مدى ارتكاز المعلومة الأولى في وجداننا، فإذا كانت طبيعتنا عقائدية أي نرى العالم باللونين الأبيض والأسود فقط، ولا مكان للألوان الرمادية في رؤيتنا، وتعودنا أن تكون معلوماتنا مطلقة، ولم نتعود أن نضع أنفسنا مكان الآخر، ولم نتعود المرونة في التفكير، ونحن في الأصل لم نتعود أن نكون صرحاء مع أنفسنا وأن نعي أنفسنا، هذه الطبيعة، التي وجدها كريس موني أكثر عند أعضاء الحزب الجمهوري مقارنة بأعضاء الحزب الديموقرطي في الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الطبيعة تحارب بقوة المعلومة الجديدة التي تتنافر مع المعلومة الأصلية، ويظهر هذا في شكل نشاط في منطقة القشرة الحزامية الأمامية anterior cingulate cortex، وهذه المنطقة، كما يظهر من إسمها هي جزء من نصفي الكرة المخية وأول من تكون فيها، ولكنها قريبة من المخ البدائي الذي يتعامل مع العاطفة، وعلى اتصال به، ونشاطها مثله نشاط عاطفي وليس نشاط تفكيري. ما تقوم به هو ما يسمى في علم النفس "منطق تحفيزي" motivational reasoning، وهو في الحقيقة لا تفكير ولا منطق، ولكنه تحفيز عاطفي للدفاع عن المعلومة الأساسية، ومحاربة المعلومة الجديدة. وقد أثبتت دراسات الرنين المغناطيسي الوظيفي أن الفرد في حالة التنافر المعرفي يكون قد اتخذ قراره أن يرفض المعلومة الجديدة التي تتنافر مع معلومته الأساسية مبدئيًا قبل المناقشة، وكل مناقشة يقوم بها، ليست مناقشة منطقية، بل حجج يقدمها لتأييد القرار الذي اتخذه مبدئيًا. لذلك، لن يقتنع، وكلما حاول الطرف الآخر في المناقشة أن يقنعه بالمنطق كلما تشبث برأيه. هنا فهمت لماذا اصبحنا لا نقتنع؟!! وفهمت سبب ضعف الفكر العقائدي الذي يرفض سماع المنطق، وينغلق على نفسه.

تعالوا نعطي بعض الأمثلة: أحمد عنده صديق من أيام الطفولة يحبه ويثق فيه. وصديق آخر، محمود يقول له معلومة تمس أخلاقيات صديقه. عندما يواجه أحمد هذه المعلومة الجديدة التي تتنافر مع معلومته الأساسية عن صديقه، يقرر لا إراديًا أن يرفضها، وكل حجة يظهرها محمود ليقنع أحمد بوجهة نظره أحمد لا يفهمها لأنه لا يفكر منطقيًا، هو في حالة تفكير عاطفي "منطق تحفيزي".

وفي مثال آخر، في الخمسينات من القرن الماضي اعتقد بعض الأمريكيون البسطاء أن نهاية العالم ستأتي في يوم معين، فتخلص كثير منهم من ممتلكاته تحسبًا ليوم نهاية العالم. جاء اليوم وذهب ولم يحدث شيء. فماذا كان قول هؤلاء الناس؟ قالوا "لقد سمع الرب دعائنا واستجاب لنا، وقرر أن يعطينا فرصة أخرى حتى ينصلح حالنا". هل كان عندهم إثبات لما يقولون؟ طبعًا، لا. الموضوع كله عاطفة، كانوا يريدون أن يؤيدوا بها معلومتهم الأساسية، واخذتهم عاطفتهم من المعقول إلى اللا معقول.

هذا يحضر لنا السؤال التالي: "ما سبب التغيير في مصر، وزيادة التنافر المعرفي؟"

طبعًا، ليست هناك دراسات عن تغير التنافر المعرفي في مصر، ولكن هناك ملاحظات تجريبية تظهر لنا أننا قد أصبحنا أكثر عقائدية عن ذي قبل، ونحن نعرف أن الجمهوريين أكثر عقائدية من الديموقراطيين فمنهم الإنجيليين، والصهاينة المسيحيين. كذلك في مصر، قد أصبح تفكيرنا مطلقًا أكثر من ذي قبل، ورأينا مشاكل طائفية أكثر من ذي قبل. كل هذا يتطلب منا أن نتفكر إلى أين المسير؟

وهنا قالت شهرزاد: "أن نكون صرحاء مع أنفسنا، وأن نعي أنفسنا، وأن نضع أنفسنا مكان الآخر، وأن يكون تفكيرنا مرن، هي عوامل تساعد على التواصل الفكري الصريح، والمجتمع الصحي"، وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري

هناك تعليق واحد:

المتابعون