الأحد، 2 يناير 2011

لحظة تفكر: الحمد لله

من حين لآخر أجد نفسي في حالة تفكر، يمر فيها أمام عيني شريط عن أحداث في حياتي، أحداث ليست كلها مهمة، ولكنها لسبب ما علقت في ذاكرتي، أتمعن في التفكير فيها، وأوصلُها بأفكار أخرى فتأخذني إلى أوقات بعيدة، وأماكن بعيدة.
يمر أمام عيني الآن شريط حياتي عندما كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري، أقف أنا وابن خالتي نبيل الذي يكبرني قليلاً أمام طنط فتحية في بيت جدي، تسألنا عن شيء ما، وأقص عليها ما حدث، ويقص عليها نبيل ما حدث، وهو مختلف عما قلت، فتلتفت طنط فتحية إليه، وتقول "أنا مصدقة سهير، سهير لا تكذب"، وكانت سهير لا تقول الحقيقة!

لا أستطيع أن أقول أنني كنت أكذب، فالموضوع لم يكن يستاهل الكذب، ولم أكن خائفة حتى أكذب، فلماذا لم أقل لها ما حدث؟ لا أدري. أظن أنه كان تفنن من جانبي، لم يكن خيال، فأنا كنت أعرف أن ما قاله نبيل هو ما حدث، ولكني ربما قلت ما قلته كنوع من التفنن، فالأطفال كثيرًا ما يخلطون بين الواقع، وما يتخيلونه، وعندما قالت "سهير لا تكذب" لم يكن عندي إحساس بالذنب، فأنا كنت صغيرة على أن أحس بالذنب، ولكن منذ هذا الوقت أصبحت "سهير لا تكذب"!!
ثم أرى نفسى تقرييًا في سن الخامسة أو السادسة، واقفة في نفس منزل جدي، أسمع جدتي تقول للرجل المسئول عن الشغالة الجديدة تحت التدريب "البنت دي لا تصلح، دي قليلة الحيلة، ما تعرفش تتصرف"، ويأخذ الرجل البنت إلى بلدها، وتفضل معي طول عمري فكرة أن "قليل الحيلة" لا يصلح، وممكن نبعثه إلى بلده!!
وفي العاشرة من عمري تعلمت لعب الشطرنج، فكنت ألعبه بسعادة ولساعات طويلة حتى أتقنته، وأستطعت أن أتفوق على أطفال في سني، وأيضًا على ابن عمي الذي كان يكبرني سنًا، فاقتنعت أنني أصبحت بطلة شطرنج!! وكان ذلك سبب فخر كبير لي.
وفي صيف هذا العام، ونحن جالسون على شاطئ الاسكندرية علمت من صديقة والدتي أن قريبها لاعب شطرنج قدير وهو متواجد حاليًا في شاطئ غير بعيد عن شاطئنا، فالتفتت إلى أختي الصغيرة، وقلت لها "تعالي نذهب إليه، أريد أن ألاعبه"، وفي شمس الظهر، وفوق الرمال الساخنة سرنا أكثر من عشرين دقيقة وعندي يقين (ربما أمل فقط) أنني سأنتصر على هذا اللاعب الذي يكبرني بأربعين عامًا!! وفي دقائق قليلة، ومعظم قطعي ما زالت في أماكنها، إنتصر علي اللاعب القدير.
هذا ما أتذكره عن لعب الشطرنج، الذي أثر بعمق على فكري، فاهتمامي بالأهداف، وباستراتيجية الوصول إلى الهدف هما بعض ما اكتسبته من مئات ساعات لعب الشطرنج.
ثم أتذكر آخر أيام كل أسبوع في مدرسة الراهبات حيث كنت أدرس. أقف أمام شباك المكتبة، وأقدم طلبي للراهبة: أسماء أربع كتب بوليسية إخترتها من كتب أجاثا كريستي، وأرسين لوبين. سأقرأ الأربع كتب في يومي الإجازة الأسبوعية وباقي الأسبوع حتى أرجعهم إلى المكتبة في نهاية الأسبوع. سأقرأهم بدقة، وسألاحظ كل كلمة وكل وصف حتى أستطيع أن أكتشف القاتل أو المجرم قبل أن يدلنا عليه الكاتب في نهاية القصة. لا أتذكر من هذه القصص البوليسية إلا بعض العناوين، ولكنها ساعدت في بناء قوة ملاحظتي، وقدرتي على تحليل ما ألاحظه، أي ساعدتني على إيجاد علاقات بين مكونات الشيء الكامل.
وأتفكر الآن في الألغازالمصورة التي كنت ألعبها على مدار حياتي. صور لصقت على كارتون (أو خشب لألغاز الأطفال الصغار)، وقُطعت إلى بضع قطع في حال الخشب، وإلى 100 أو 500 (وربما أكثر) قطعة صغيرة (في حال ألغاز الكارتون). كنا ننكب عليها ساعات طويلة أنا وصديقاتي، ومن بعد ذلك، أنا وأولادي، وبعد ذلك أنا وأحفادي. بكل تركيز نحاول أن نجد مكان كل قطعة لنكون صورتها الأصلية قبل أن تُفك وتنفصل إلى مئات القطع الصغيرة. نلاحظ في كل قطعة التفاصيل الدقيقة في شكلها، وفي قطعة الصورة التي تظهرها، لعل هذا يدلنا على مكانها في الصورة، ونقسم أنفسنا إلى أكثر من فريق، كل واحد يختص بإكمال قطعة مميزة في الصورة. فريق يحاول التعرف على القطع التي تكون الأشجار، وفريق يختص بالسماء الزرقاء. نتبادل القطع، "خذي هذه القطعة، فيها ورقة شجر"، أو "أنا أعرف مكان هذه القطعة". ويغمرنا إحساس بالإنجاز عندما نجد مكان قطعة مبهمة المعالم.
ساعد لعب الألغاز المصورة على تقاربي مع من لعبت معهم: صديقاتي، وأولادي، وأحفادي، ومن ناحية أخرى ساعد على بناء قوة ملاحظتي، ومثابرتي في العمل، ونظرتي الشمولية للأمور، ومرنني على الفكر التركيبي، الذي يساعد على تكوين الكامل من مكوناته، بعد أن نكون قد حللنا الكامل إلى مكوناته، ورأينا العلاقة بين هذه المكونات.
أتفكر في كل هذه الذكريات وأقول الحمد لله. أحمد ربي لأنني أمضيت ساعات طويلة في لعب الشطرنج، وفي قراءة القصص البوليسية، وفي لعب الألغاز المصورة، ساعات طويلة أمتعتني، وجعلتني من أنا الآن.
د/سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون