الاثنين، 23 يناير 2012

لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ اليابان، حالة خاصة



في المقالات السابقة قدمنا أفكار ماريانو جروندونا كما نسقها لورنس هاريسون وأوضح أن هناك عوامل ثقافية في كل مجتمع تهيئ أو تناهض تنميته، وهذه العوامل تنقسم إلى 4 مجموعات: عوامل إجتماعية، وطبائع إقتصادية، وأخلاقيات، ونظرة المجتمع إلى العالم الخارجي.
وبدأنا بالعوامل الاجتماعية، فأكدنا أن سيادة القانون من أهم الأسباب الاجتماعية التي تساعد على تنمية المجتمع، كذلك، اتساع مساحة الثقة بين أفراد المجتمع المختلفين، وعدم إنغلاق العائلات على نفسها حتى تستطيع أن تكون مجتمعًا سويًا منتجًا، وعرضنا أهمية تواجد رأس المال الاجتماعي في المجتمع، وأن كل هذه العوامل تؤثر على قابلية المجتمع للتنمية.

ثم انتقلنا إلى آراء عالم الاجتماع الشهير د/روبرت باتنم Robert Putnam أن رأس المال الاجتماعي يزيد عندما يُكون المجتمع ترابطات قد يخيل لنا أنها ترابطات بسيطة مثل تكوين فرق لعبة البولينج ولكنها مهمة للنسيج الاجتماعي الذي يساعد المجتمع على التنمية. ومن أفكار د/باتنم ننتقل إلى مثل اليابان لأننا نريد أن نعرف إلى أي مدى نستطيع أن نتحكم في تكوين رأس المال الاجتماعي، فها هي قصة اليابان.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ضربت البحرية الأمريكية ميناء في خليج يوكوهاما في اليابان، وكان اليابان في هذه الحقبة الزمنية من تاريخه بلدًا إقطاعيًا مقسمًا إلى إقطاعيات أو شغونات، يتحكم في كل منها شوغن، وكان لليابان إمبراطور، ولكن دوره كان مهمش بالشغونات الذين كانوا قد تغولوا. ولم يكن هناك إحساس بالقومية الوطنية، فكانت كل مقاطعة بلدًا مستقلاً برئيسه، الشوغن.
كانت ضربة البحرية الأمريكية للميناء الياباني صفعة وإهانة لليابانيين، فهم شعب يعتز بنفسه، لا يقبل أن يهان، فأخذ على نفسه مسئولية ما حدث له (وهذه صفة من يثقون بأنفسهم) وتساءل: "ما هو الخطأ الذي فعلته؟ وكيف أصلح خطئي؟"
أخذ بعض الرجال الكبار في اليابان بزمام الأمر في أيديهم، وقرروا أن يتقدم اليابان ليصبح ندًا للغرب. فبدئوا في تصفية نظام الشوغن (الإقطاعيات)، ولأن كان عندهم رمز لوحدتهم الوطنية (وهو الامبراطور)، وكان مثلهم من الفخر الوطني محددًا مسبقًا، فقاموا باستعادة أو إعادة الميجي أي الإمبراطور (ولاحظ هنا أن اليابانيين لا يسمونها ثورة، بل يسمونها استعادة لحق كان قد ضاع منهم). فكانت هناك لقاءات دموية وانتفاضة من الفلاحين، إلا أن الحكومة تحكمت في المواقف وحرصت على البقاء فوق الصراعات ولم تتدخل فيها، وحرص الجميع على عدم تصعيد الخلافات حتى لا يشجعوا على الغزو الأجنبي.
ولأسباب كثيرة كان اليابانيون على استعداد للحداثة: فالأمية كانت منخفضة، وقيمهم الأسرية كانت قوية، وأسرهم كانت مترابطة، وحكوماتهم فعالة، وأخلاقياتهم في العمل عالية، وكانوا يتمتعون بضبط النفس، وبإحساسهم بقيمة ذاتهم. كل هذه كانت عوامل مهمة في ثقافتهم، وهنا أحب أن نتوقف ونتمعن في الأسباب التي ساعدت اليابان على الحداثة، ونحاسب أنفسنا: كم من هذه الأسباب نتمتع بها؟
هدف اليابانيون إلى الحداثة بطريقة منهجية ومكثفة: أرسلوا البعثات للدراسة في الخارج في المؤسسات الصناعية وفي غيرها، وطوروا الخدمة البريدية، والتعليم العام للبنين والبنات. وأصبح هدف التعليم العام ليس فقط نشر المعرفة، لكن أيضًا غرس الانضباط، والطاعة، والالتزام بالمواعيد، واحترام الامبراطور.
بهذه الطريقة، تجاوز اليابانيون الولاءات الضيقة التي كان يغذيها نظام الشوغن. ومن خلال الخدمة العسكرية في الجيش وفي البحرية ومن خلال تشابه الزي والانضباط، قُضي على أي تمييز من أي نوع بين الأفراد سواء كان اجتماعيًا (لا شك أن جملة "إنت عارف بتكلم مين؟" لم تكن تسمع في اليابان).
مبدئيًا، ركز اليابانيون على الأشياء التي كانوا متخصصين فيها مثل القطن والحرير والصناعات التي في مأمن من التقليد مثل الميسو والصويا. وكان لديهم المال، ولكن ما كانوا يحتاجونه هو الموارد البشرية: أناس لديهم الابداع والخيال وروح المبادرة، وأشخاص يعرفون اقتصاديات الحجم الكبير، والآلات، ويعرفون أيضًا التنظيم الإداري.
فبدأوا بالسلع الاستهلاكية ولكنهم كانوا مصممين على أن يتجاوزوها إلى الآلات الثقيلة. لهذا أعتمدوا جزئيا على الحكومة التي مولت رحلات الاستطلاع في الخارج، واستقدمت الخبراء، وبنت المنشآت ودعمت المشاريع، ولكنهم اعتمدوا بشكل رئيسي على سلوك الوطنيين اليابانيين الذين كانوا على استعداد لتغيير وظائفهم لمصلحة الوطن، وخاصة الحرفيين ذوي المهارات والمواقف التي شكلتها وثيقة العمل الجماعي وشكلتها سنون من الإشراف والعمل الجماعي في الورش الحرفية.
ولإحساسهم العالي بالمسؤولية تجاه المجموعة فقد عاد إلى الوطن اليابانيون الذين ذهبوا الي الخارج، وعندما كانوا يحتاجون إلى خبرة خاصة كانوا يفضلون أن يتعلموها من شعبهم بدلاً من أن يطلبوا خبيرًا أجنبيًا لتعليمهم إياها.
لاحظ أن خلال حقبة نظام الشوغن لم يكن لدى اليابانيين هذا الشعور القومي. لقد غرسه التعليم، فخُصص وقت كبير من وقت الدراسة لدراسة الأخلاقيات. على سبيل المثال، تجد في كتاب مدرسي لعام 1930 الجمل الآتية "أسهل طريقة لممارسة الوطنية هي ترويض النفس في الحياة اليومية، والحفاظ على حسن النظام في العائلة، وتصريف العمل بمسؤولية كاملة".
ويؤكد التعليم على الادخار وعدم الاهدار. فكانت هذه الإصدارات اليابانية مشابهة لما وصفه ماكس فيبر Max Weber في الأخلاق البروتستانتية: "الجدية في العمل وفي الحياة، والصدق والاقتصاد في المال وفي الوقت".
هنا قالت شهرزاد: "نستطيع أن نتعلم الكثير من تجربة اليابان، فلنتفكر في أوجهها المختلفة، ولقد حان الوقت أن أكف عن الكلام"

د/سهير الدفراوي المصري

هناك تعليق واحد:

  1. brilliant article. I agree that moral principles and deciplines are critical aspects for any nation to attain its rightful place amongst the increasingly inseprable global community.
    Thank you
    Hatem El-Hady

    ردحذف

المتابعون