الأحد، 1 يناير 2012

مدونة حان وقتها


عندما كنت أعيش في شيكاغو وكنت أذهب كل يوم أحد إلى جامع الـICC قصت علي سيدة نمساوية مسلمة متزوجة من عضو في الجامع مهاجر من ألبانيا، قصت علي القصة التالية.
قالت: "أنا وزوجي نسافر كل صيف إلى أوروبا فنزور النمسا وألبانيا وتركيا، وفي يوم ونحن خارجان من جامع في استامبول بعد أن صلينا فيه رأيت رجلاً عجوزًا ضعيف البصر يبيع صواني معدنية مشغولة باليد. أعجبتني صينية فسألته عن ثمنها، قال: "كذا"، فدفعت له أكثر من ثمنها وقلت له: "احتفظ بالباقي". غضب الرجل العجوز ضعيف البصر وقال: "أنا لا أشحذ، هذا هو ثمنها، ولن آخذ إلا ثمنها".
كانت السيدة النمساوية تقص هذه القصة كدليل على اعتزاز الأتراك بأنفسهم.

وبعدما عدت لأعيش في القاهرة كثيرًا ما تذكرت هذه القصة وتساءلت: "هل أجد الآن بين التجار الجائلين من يتصرف مثل تصرف هذا الرجل العجوز؟"
عندما عدت إلى مصر منذ أكثر من عشر سنوات لاحظت التغيير النفسي الذي طرأ على المصريين فأصبحوا أكثر اكتئابًا، وأقل اعتزازا بالنفس، وأكثر أنانية وأكثر مادية. وتفكرت في هذه الباقة من الصفات المترابطة: هل سببها الفقر؟
ولكني تراجعت عن فكرة أن يكون الفقر سبب هذه الصفات ، صحيح الفقر يمكن أن ينتج الاكتئاب والأنانية وقلة الاعتزاز بالنفس والمادية، ويكسر البني آدم، ولكن هذا إذا كان الفقر مدقعا ويمنع عن البني آدم أساسيات الحياة من أكل ومأوى، أما دون ذلك، فلا يكسر الفقر إنسانًا ما دام يتمتع بأساسياته، ولكن ما حدث هو أن الإعلام، والبترو دولار، والثقافة الجديدة، كل هذه العوامل حولت في نظر المصري ما هو غير أساسي إلى أساسي فأصبح يشعر أنه تنقصه أساسياته، وانكسر، وأصبح أكثر أنانية، وأكثر اكتئابًا، وأكثر مادية، وأقل اعتزازا بالنفس.
ما أهمية الاعتزاز بالنفس؟
من يعتز بنفسه اعتزازًا حقيقيًا لا يكذب، ولا يتصرف تصرفًا مشينًا، ويتواصل مع عمله فيتقنه ليعتز به. من يعتز بنفسه يدافع عنها وأيضًا يدافع بقوة عن معتقداته، أما من لا يعتز بنفسه فهو مستعد أن يجد العذر لجلاده، وليست عنده القوة أو النخوة للدفاع عن معتقداته.
كنت في مصر وقت الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كنت إذا سألت الناس: هل سينتخبون؟، يقولون: "لن ننتخب لأن الانتخابات ليست نزيهة وصوتنا ليس له قيمة"، فأقول: "وإذا كانت هناك غرامة؟" يقولون: "سننتخب"، فأسأل: "من؟" يقولون: "مين غيره؟ سننتخب مبارك". فأسأل: "هل أنتم راضون عن أدائه، لذلك ستنتخبونه؟" يقولون: "لا، لكن إللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش، ده أقل ما فيها ملأ جيوبه"!!
كنت أتعجب عندما أسمع هذا الكلام من المتعلم، والأمي، والغني والفقير. على ماذا يدل هذا الكلام؟ يدل على أن الشعب أضاع اعتزازه بنفسه، وأنه مستعد أن يتواصل مع جلاده، وكنا نرى آثار عدم الاعتزاز بالنفس في الشوارع القذرة، والقمامة المتراكمة، والكل يرمي النفايات من نوافذ السيارات، ولا يفهم أن هذا إعلان صريح وواضح بعدم الاعتزاز بالنفس.
ثم جاءت الثورة وفرح الشعب بها لأنها ردت له كرامته، فخرج ينظف الشوارع، ويرسم الحوائط بالصور والألوان، ويؤلف الأغاني، وكلها دلائل أنه بدأ يسترد اعتزازه بنفسه.
ولكن كانت هناك فئة قد تعودت أن تستمد قوتها من شعب منزوع الاعتزاز بالنفس، شعب يطأطئ رأسه ولا ينظر لجلاده في عينيه، شعب مكتئب، شعب مذلول، فعملت بمنهجية على أن تقتل الثورة، فكان ماسبيرو، ومحمد محمود، ورئاسة الوزراء، والقصر العيني، وسمعنا عن تصرفات مرضية وفي غاية الوحشية، إذ قتلوا شباب الثورة، ومن لم يقتلوه لفقوا له التهم ويحاكم أمام المحاكم العسكرية.
غدًا مليونية الحرائر، وفي الصفحة الأولى من جريدة الشروق هناك خبر أن حزب الحرية والعدالة يبحث عن مستثمرين أتراك لحل أزمتي المرور والقمامة. تفكرت في هذا الخبر. حزب الحرية والعدالة رأى النظافة في تركيا فقال: "أريد من هذا الصنف". لم يغص في أسباب المشاكل، فكما رأينا القمامة مشكلة مركبة تعبر عن مشكلة تحتية تتصل بثقافة المجتمع، وباعتزازه بنفسه، فمن خمس عشرة سنة كان الفساد متفشيا في تركيا، ولم يكن المرور أو النظافة في صورة مثالية، ولكن كان هناك من يحتفظ بكرامته، ويرفض البقشيش، مثل بائع الصواني العجوز، فاستطاعوا أن يتقدموا ويزيلوا القمامة وينظفوا الشوارع، ولكننا في مصر رأينا الشعب لا يهتم بنظافة شوارعه لأن الحكومة عاملته بوحشية وانتزعت منه إنسانيته.
ستأتي الشركة التركية وستزيل القمامة، كما عملت من قبل الشركة الإسبانية، وغيرها من شركات النظافة، ولكن الشعب الذي أضاع اعتزازه بنفسه سيرمي القمامة مرة أخرى في الشارع، وسيرمي النفايات من نوافذ العربات، فقد أأأوصلناه إلى حالة عدم الاهتمام.
وأتمنى أن يعي حزب الحرية والعدالة البعد الثقافي للمشاكل، ولا يعاند كما عاند من حكموا قبله.
وهنا قالت شهرزاد: "لا أتكلم في السياسة أو الدين، ولكن أتكلم في الثقافة والتعليم"، ثم سكتت عن الكلام المباح.

د/سهير الدفراوي المصري
22 ديسمبر 2011

هناك تعليقان (2):

  1. مدونة فوق الرائعة

    ردحذف
  2. نحتاج الى نظافة العقول اولا

    ردحذف

المتابعون