الاثنين، 4 يونيو 2012

علم النفس والإعلام والعلاقات العامة -4


الديمقراطية هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، ونظريًا هي فكرة عظيمة أن يحكم الشعب نفسه، وألا يجعل رئيسًا أوتوقراطيًا يستغله، ولكن كما يقال بالإنجليزية: The devil is in the details يعني صحيح الصورة جميلة لكن عندما تبدأ تنظر في تفاصيلها سيطلع لك العفريت، وتُظهر لك التفاصيل صورة مختلفة.

الديموقراطية منذ ميلادها في اليونان منذ حوالي ألفي عام وهي عمل انتقائي. لم يكن يسمح لغير الأحرار أن يعبروا عن آرائهم في شئون البلد، كذلك، عند تأسيس الولايات المتحدة لم يعط حق الانتخاب إلا للرجال البيض أصحاب الضيعات، فهم الأغنياء المتعلمون. لم يكن من حق السيدات البيضاوات، أو الرجال والسيدات السود أن ينتخبوا. وساعد هذا الانتقاء على أن يحكم المتعلمون البلاد، فإذا توافر عندهم حب الوطن بجانب الخبرة عاش البلد في تبات ونبات.

وبظهور فكرة المساواة بين كل أفراد الشعب مكملة للنظام الديموقراطي أصبح من حق النساء والأقليات أن ينتخبوا، فأعطت الديموقراطية فرصًا متساوية لكل أفراد الشعب: الغني مثل الفقير، والسيدات مثل الرجال، والأقليات مثل الأكثريات، والمتعلمون مثل الأميين، ليقول كل فرد رأيه وليعبر عن مصلحته، فيُسمع صوت الكل، ويشعر الكل أن البلد بلدهم، وينتج عن ذلك تماسك في المجتمع واهتمام بأموره.

هل هذا ما يحدث فعلاً في البلاد التي تتحول إلى الديموقراطية؟

ليس تمامًا.

هذا ما يحدث إلى حد ما في البلاد المتقدمة التي رسخت فيها الديموقراطية منذ وقت، ولكن في البلاد التي دخلتها الحرية والديموقراطية حديثًا فهناك عوامل تتدخل في الموضوع. فما هي هذه العوامل؟

تعالوا نحلل الموضوع: في الانتخابات الديموقراطية يعبر كل فرد عن رأيه الخاص وعن مصلحته، آخذًا في الاعتبار مصلحة الجميع، أي مصلحة الوطن، وهذا التعبير يفترض افتراضين:

الافتراض الأول أن يستطيع كل فرد أن يعبر بحرية عن رأيه ومصلحته في انتخابات نزيهة، وهذا ما نراه في البلاد المتقدمة التي رسخت فيها الديموقراطية، ولكن في بعض البلاد حيث النظام الديموقراطي ما زال حديثًا فقد نرى فيها تزويرًا للانتخابات، ويختطف النظام حرية تعبير الشعب، وينجح الرئيس في الانتخابات برقم فلكي من عدد أصوات الناخبين، مثلاً 99%!

والافتراض الثاني أن يعرف الفرد أين مصلحته، أي عنده العلم، والمعلومات، وليس عنده ما يعوق قدرته الذهنية عن أن يتوصل لما فيه مصلحته وينتخب بناءً على ذلك، وهذا ما يحدث في البلاد المتقدمة التي رسخت فيها الديموقراطية، ففي هذه البلاد الشعب متعلم، وهو يقرأ، ويعرف الأخبار، ويحللها، ويقيمها، وعنده صحافة حرة، وعنده جمعيات أهلية تقوم بدور الـwatch dog فتشرف على الهيئات المختلفة لتتأكد أنها تعمل لمصلحة الشعب، أي أن هناك نظامًا مؤسسيًّا يعمل على مساعدة الفرد في معرفة مصلحته، والانتخاب بناءً عليها.

لكن في بعض البلاد حديثة الديموقراطية قد نرى أن نسبة عالية من الشعب غير متعلمة، وإلى حد ما تجد صعوبة في الوصول إلى المعلومات التي تساعدها على اتخاذ قرارات في مصلحتها، فهي تأخذ معلوماتها من الإعلام المرئي (وسنرى فيما يلي أوجه قصور الإعلام المرئي)، وعندما تتحول من نظم أوتوقراطية إلى نظم أكثر ديموقراطية نجدها تمر بمرحلة حرجة لأنها لم تُكوِّن بعد القوانين ولا مؤسسات الإشراف الحكومية والأهلية التي تشرف على صفقات رجال الأعمال. نتيجة لفقر الإشراف تظهر طبقة رجال أعمال هم أقرب إلى النصابين منهم إلى رجال الأعمال المحترمين، إذ يستولون على ثروات البلاد ويشاركهم في ذلك أعضاء الجريمة المنظمة، فيعم الفساد البلاد، وهذا ما رأيناه في روسيا وشرق أوروبا بعد سقوط الجدار الحديدي وبعد الثورة البرتقالية في أوكرانيا.

وشراكة رجال الأعمال الجدد مع أعضاء الجريمة المنظمة هي الخطوة الأولى للتحكم في ثروة البلاد، أما الخطوة الثانية فهي تأمين مكاسب الشركاء من الثروة بأن يتحكموا في البرلمان والحكومة ليشرعوا القوانين التي تحميهم وتحافظ لهم على مكاسبهم. ويساعدهم في هذه الخطوة 4 عوامل:

- طبيعة وتاريخ البلد، فتبع نظرية روسيا-بولندا التي تقدم بها الكاتب الأمريكي كلاي شيركي Clay Shirky فإن البلاد التي لم تبق تحت نظام أوتوقراطي أكثر من جيلين تستطيع أن ترجع بسهولة إلى نظام ديموقراطي لأنها ما زالت تتذكر هذا النظام وقوانينه ومؤسساته وهذا ما حدث في بولندا، أما البلاد التي عاشت أكثر من جيلين تحت نظام أوتوقراطي، أو لم تعش في الأصل في ديموقراطية فهي لا تستطيع أن تتخلص بسهولة من بقايا النظام الأوتوقراطي وتتخبط في طريقها إلى الديموقراطية كما هو الحال في روسيا.

- الثروة، فالانتخابات الديموقراطية على الطريقة الأمريكية تتطلب مبالغ باهظة للإعلام والإعلانات، ومن يريد أن يترشح للانتخابات عليه إما أن يكون فاحش الثراء، أو يجد أغنياء ليعضدوه ويصرفوا مبالغ طائلة في هذا السبيل، وطبعًا سيطالبونه بثمن ما دفعوه، فينتج عن ذلك أن ينحدر المجتمع إلى الفساد، ولن يمنعه من ذلك إلا قوانين صارمة. الديموقراطية على الطريقة الأمريكية ليست هي النوع الوحيد من الديموقراطية، ففي مدونتي بعنوان "لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ التعليم والإعلام (5)" رويت قصة مختصرة عما كتبه د/توني واجنر، أستاذ التعليم في جامعة هارفارد، في كتابه "Making the Grade". في هذا الكتاب استوقفتني معلومة تفيد أنه في عام 2001 عندما زار د/واجنر الدانمرك وجد ثلثي أعضاء البرلمان إما تربويين أو من كانوا تربويين في الماضي!! فهؤلاء التربويون ليسوا أغنياء، ولكن اختارهم الشعب الدانمركي لكفاءتهم، فما هي العوامل التي ساعدت الشعب الدانمركي أن يختار بناءً على الكفاءة وليس الثراء كما هو الحال في الولايات المتحدة وفي كثير من البلاد الديموقراطية؟

- التحكم في الإعلام، وبالأخص الإعلام المرئي، هذا هو العامل الثالث الذي يستعمله رجال الأعمال الجدد في تأمين مكاسبهم، فيتملكون المؤسسات الصحفية، وبالأخص يشترون محطات التلفزيون لأن الإعلام المرئي مقارنة بالإعلام المكتوب يقوم بدور جبار في صياغة فكر ووجدان الشعوب. لماذا؟ لأنه يؤثر على كل المخ بطريقة غير محددة، وغير منطقية، وقوية، فيتقبلها المخ دون مناقشة ويتأثر بها، وهو في ذلك، يختلف عن الإعلام المكتوب المبني على الكلمة والذي يخاطب الناحية اليسرى من مخ الإنسان، المتصلة بالمنطق، فعندما تأتي معلومة مكتوبة إلى الناحية اليسرى تناقشها، وإما تتقبلها أو ترفضها. فإجابة على سؤالنا عن العوامل التي ساعدت الشعب الدانمركي أن يختار بناءً على الكفاءة وليس الثراء نكتشف أن من العوامل المؤثرة أن الدانمركيين لا يسرفون في مشاهدة التلفزيون، كما هو الحال في بلاد أخرى، ففي الدانمرك هناك فقط 3 محطات تلفزيونية قومية تنهي إرسالها في منتصف الليل، وكل من يشتري تلفزيونا عليه أن يحصل له على رخصة سنوية قيمتها توازي 2000 جنيه مصري، وهذه الرخصة تستعمل فقط للقنوات القومية، أما إذا أراد الفرد أن يشاهد قنوات أخرى فعليه أن يشتري رخصة قد يصل ثمنها إلى 500 جنيه في الشهر. فالتحكم في مشاهدة التلفزيون حرر الشعب الدانمركي من عبودية الإعلام المرئي فاستطاع أن يختار ممثليه في البرلمان بناء على كفاءتهم وليس دعايتهم الإعلامية.

- شركات العلاقات العامة، تعلم رجال الأعمال الجدد في البلاد التي تبنت الديموقراطية حديثًا، تعلموا من إخوانهم الرأسماليين في الغرب كيف يستعملون خبرات شركات العلاقات العامة في التحكم في تفكير شعوبهم. منذ بضعة أيام قرأنا أن حزب المناطق The Party of Regions ، الحزب الحاكم في أوكرانيا، والذي اشتهر بالفساد المالي، وقمعه للحريات، قرأنا أنه عين بورصون­ مارستللر Burson Marsteller وهي واحدة من أكبر شركات العلاقات العامة ومتخصصة في تنظيف صور الحكومات التي تهدر حقوق الإنسان، عينها حزب المناطق لتنظف صورته قبل انتخابات أكتوبر 2012!!

ماذا نتعلم مما سبق؟ أولاً، نتعلم أن الانتقاء في تطبيق الديموقراطية ما زال إلى حد ما متواجدًا معنا ولكن بصورة أكثر براعة عن ذي قبل، فبدلاً من منع فئات من الانتخاب كما كان الحال قديمًا نرى الآن التحكم في التفكير بالإعلام. ثانيًا، نعرف أننا مثل روسيا قد عشنا أكثر من جيلين دون ديموقراطية وسنجد صعوبة في أول تطبيقنا لها فنتعلم أن نستفيد من خبرة من سبقونا. ثالثًا، نعرف أن الإعلام المرئي وشركات العلاقات العامة تستطيع أن تعوق قدرة المواطن الذهنية عن أن يتوصل لما فيه مصلحته، فنسلح المواطن بالتعليم الجيد الذي ينمي تفكيره النقدي، وأخيرًا، نؤكد أهمية القوانين، والمؤسسات والتعليم الجيد الذي يساند الديموقراطية.

وهنا قالت شهرزاد: "أملي ألا أكون قد أثقلت عليكم بهذا الموضوع الجاد"، وسكتت عن الكلام المباح.

د/سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون