الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

سؤال في حفل تخرج

حضرت أمس تخرج دفعة جديدة من "أنا ونحن" في مركز شباب إمبابة. سألني أحمد، وهو أحد الخريجين "نعرف الحقيقة في السياسة إزاي؟ كل واحد بيقول كلام عكس الثاني، والواحد بقى تايه مش عارف الحقيقة فين لدرجة إني بقيت مش عايز أقرأ في السياسة".
أجبته أنه على حق، وأنني أيضًا مشغولة بهذا الموضوع لأنني أقرأ عن أشياء في الجرائد أعرف أنها غير حقيقية، ولكن الكل يرددها مرة ومرتين وثلاثة فيصدقونها، وفيما يلي سأسرد ردي لأحمد بتوسع لم يكن عندي الوقت أن أقدمه كله في حفل التخرج.
أعطيته مثل العلمانية. يقال أن العلمانية كفر. فهل هي فعلاً كفر؟



العلمانية هي فصل الدين عن الدولة بما فيها العلم، فالعلمانية تعطي للدين حقه واحترامه وتعطي للعلم حقه واحترامه، ولا تجعل أيًا منهما وصيًا على الآخر أو يتدخل في أمور الآخر لأنهما مختلفان: فالدين ثابت، والفكر العلمي متغير، والدين يقين والفكر العلمي نسبي، والدين يتطلب تقبل النص كما هو وحفظه، والفكر العلمي يرتكز إلى الشك والأسئلة الكثيرة، والدين يحاسب على الواقع أما الفكر العلمي فيتطلب تصور "ماذا لو".
أنا عالمة، وفكري علماني. أعرف أن الغرب (والعالم كله) لم يتقدم بعد عصور الظلام في القرون الوسطي، ولم ينتج عصر النهضة الأوروبية إلا بالعلم عندما خرج العلم من تحت وصاية الدين، أي بالفكر العلماني، وأن كل البلاد المتقدمة هي بلاد علمانية بما فيها تركيا المسلمة، وأتقبل نظرية التطور بما فيها تطور كائنات قبل الإنسان، لأنني أعرف أن النظرية قد أُثبتت علميا، وبُني عليها كثير من العلوم مثل الأنثروبولوجي، وأعرف أنها كأي علم، من آن لآخر يحدث فيها بعض التغيرات البسيطة التي لا تمس جوهرها.
ولكني أيضًا مسلمة متدينة حجيت بيت الله الحرام، وعملت 4 عمرات، فكيف أوفق بين ديني وبين فكري العلمي الذي يتقبل نظرية التطور؟ كيف أوفق بين تقبلي لقصة آدم وحواء في القرآن، وتقبلي لنظرية التطور؟
أولاً، أنا لا أفضل الدولة العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة فصلاً تاما، أريد فصلاً، ولكن ليس فصلاً تامًا، لأنني أدرك أننا شعب متدين يستمد أخلاقياته من دينه، وأريد أن نحافظ على ذلك، وأن يُدرس الدين في المدارس، ثانيًا، لكي أوفق بين ديني وبين فكري العلمي أفصل بينهما، وعندي من النضوج الفكري ما يساعدني أن أقول "هذه وجهة نظر الدين، وهذه وجهة نظر العلم، وكل محق في نظرته" فالنضوج الفكري يساعدنا أن نتقبل عدم تطابق وجهات النظر المختلفة وأن نتقبلهم كما هم. الفكر الناضج هو الذي يستطيع أن يقوم بذلك.
لماذا إذاً حيرة أحمد مما يأتيه من الإعلام بخصوص السياسة؟ في رأيي أن هناك سببان لذلك:
السبب الأول هو دخول الإسلاميين مجال السياسة، ومحاولتهم تكوين دولة دينية تتبع الشريعة، فيعملون على تنحية من ينافسونهم مثل الليبراليون والعلمانيون، ويتهموهم بالكفر (وهذا أصلاً حرام). وأنا مع الدكتور مصطفى النجار في مقاله "ديننا الذي نُهينه بالسياسة" وقد فجعه دعاء إمام في رمضان يقول "اللهم عليك بالعلمانيين والليبراليين" (ولا أدري كيف يتقبل المصليون هذا الدعاء ولا يخرسون هذا الإمام) وأنا مع الأزهر ومع المفتي في مناصرة الدولة المدنية، وأوافق المفتى والأمير الحسن بن طلال أن الأفضل للإسلاميين بدلاً من التكابل على السياسة أن يلتفتوا إلى التقدم بالفكر الإسلامي ويسعوا لأن يعود المسلمون لقيادة الحركة الفكرية في العالم كما كانوا في عصور مجد الحضارة الإسلامية.
والسبب الثاني أن المدارس لا تعلم التفكير وتقييم المعلومات. منذ 50 سنة كان التعليم يرتكز إلى حفظ المعلومات التي يقدمها المدرس والكتب المدرسية. ولكننا الآن في عصر المعلومات، والمعلومات متواجدة بسهولة على النت وفي الإعلام، وهي متواجدة بكثرة وتحتاج تقييم، ولكن المدارس لا زالت تعيش في الماضي ولا تعلم الطلبة كيف يقيمون المعلومات التي هم مغمورين فيها، لذا حيرة أحمد ومن مثله.
لقد قلت لأحمد أنني أكتب كتابًا عن كيف نقرأ ونقيم ما نقرأ، ونصحته ألا يتوقف عن قراءة السياسة ويحاول تقييم المعلومات بأن يسأل أسئلة كثيرة، وألا يخلط بين العقل والعاطفة، ولا يصدق ما يقرأ أو ما يسمع إلا بعد أن يقيمه. أطلب من شبابنا جميعًا أن يسألوا أسئلة كثيرة "هل هذا الكلام صدق؟ ما دليلي على ذلك؟ كيف أقيم ما أقرأ؟ ما فائدته؟ ما هي مصلحة الكاتب؟ لماذا؟ كيف؟ هل هناك تواصل في الفكر أم هناك افتراض خفي؟" وهناك كثير من الأسئلة نتعلم أن نسألها، وكلما سألنا اسئلة كثيرة كلما تعلمنا أن نسأل أكثر، والله مع المجتهدين.

هناك تعليق واحد:

  1. أوافقك الرأي في معظم مقالك يا دكتور سهير وخصوصا جزئية تحكيم العقل في ما نقرأ

    ردحذف

المتابعون