الجمعة، 26 نوفمبر 2010

لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ العوامل الاجتماعية (2)

في الأشهر الماضية قرأت الكثير للعلماء والكتاب المتخصصين في مجال دراسة دور الثقافة في تقدم الشعوب مثل لورنس هاريسون، وماريانو جروندونا، ورونالد إنجلهارت، وألبرتو كارلوس مونتانيه، وفرانسيس فوكوياما وغيرهم، وباتت عندي قناعة عميقة أن العوامل الثقافية لها دور محوري في تقدم الشعوب.
ولأنني أرى الآن أن هذا الموضوع سيلازمنا أشهرًا كثيرة، وأن هناك أوجه مختلفة لدور الثقافة في تقدم الشعوب، فقبل أن نسترسل في هذا الموضوع سنأخذ خطوة إلى الوراء ونوضح بعض المفاهيم حتى نبني على أسس متينة.
أولاً ماذا نعني بكلمة الثقافة؟
الثقافة، في مضمون موضوعنا هذا، هي القيم، والمواقف، والمعتقدات، والتوجه، والافتراضات الأساسية الذاتية التي تسود بين الناس في مجتمع ما، وتتوارثها الأجيال.
وماذا نعني بالتقدم؟
والتقدم هو التحرك نحو التنمية الاقتصادية، والرخاء المادي، والعدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية، والديمقراطية السياسية.
وحتى لا يكون هناك مكان للاختلاف، علينا أن نوضح الآن كيف سنقيم التقدم.
سنقيمه بعشر مؤشرات دولية معترف بها، وهي:
1- مؤشر الأمم المتحدة للتنمية،
2- بيانات الأمم المتحدة عن محو الأمية عمومًا،
3- بيانات الأمم المتحدة عن محو الأمية عند الإناث خصيصًا،
4- بيانات الأمم المتحدة عن الخصوبة،
5- المسح السنوي لـ(فريدم هاوس) عن حال الحرية في العالم،
6- كرونولوجيا التطور الديمقراطي،
7- بيانات البنك الدولي عن دخل الفرد،
8- بيانات البنك الدولي عن توزيع الدخل (فالتوزيع مهم)،
9- بيانات مسح للقيم العالمية للثقة،
10- مؤشر ملاحظة الفساد لهيئة الشفافية الدولية.
وفي المقال السابق قدمت مقارنة بين غانا وكوريا الجنوبية، وكيف كان البلدان في الستينات من القرن الماضي متساويان إقتصاديًا، وفي أقل من ثلاثين عامًا تقدمت كوريا الجنوبية، وأصبح إجمالي دخلها القومي 15 ضعف دخل غانا، وأُعتبر هذا دليلاً أن ثقافتها التي تختلف عن ثقافة غانا تساعد على التقدم والنمو. وقبل أن نترك هذا الموضوع أحب أن أقدم مثلاً آخرًا على اختلاف الثقافات وما ينتج عنه من اختلاف في التقدم.
إذا عملنا مقارنة بين ثلاث بلاد صغيرة في المحيط الأطلسي: جزيرة باربادوس، وجمهورية هايتي التي تكون القسم الغربي من جزيرة هسبانيولا، والجمهورية الدومينيكية التي تكون القسم الشرقي من الجزيرة، سنجد إن هذه البلاد الثلاث يسكنها أناس من أصل واحد ينحدرون من عبيد أحضرهم المستعمرون من منطقة في غرب أفريقيا، كانت تعرف بساحل العبيد، وكانوا يعيشون طوال الأربع قرون الماضية على زراعة قصب السكر، في جزر تتشابه من ناحية المناخ، والتربة، والزراعة إلخ...، أي أنهم يتشابهون من النواحي الجينية، وفي وقت ما كانوا يتشابهون من النواحي الثقافية، والاقتصادية. لذا قد يخيل لنا أنهم سيتشابهون أيضًا من ناحية درجة تقدمهم، ولكننا نجد فروقًا شاسعة بينهم، فبربادوس أصبحت دولة ديمقراطية، تصنف في أعلى درجة (7/1) تبع المسح السنوي لفريدم هاوس عن حال الحرية في العالم وهي من أغني دول العالم (رقم 51)، ودخل الفرد السنوي فيها أربعة عشر ألف دولار، وترتيبها متقدم في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية 175/27، وهي تجذب الاستثمارات وعندها سياحة تدر دخلاً كبيرًا، ونسبة الأمية فيها لا تحسب، أما هايتي فتصنف من ناحية الحرية في أقل درجة (7/7)، ودخل الفرد السنوي فيها 410 دولارًا لا غير، وترتيبها متأخرًا في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية 175/150، والأمية فيها مرتفعة (55%)، وإذا تمعنا في حال الجمهورية الدومينيكية سنجد حالها متوسطًا، ويقع بين هذين البلدين فدخل الفرد فيها هو 1770 دولارًا، وتصنفيها في الحرية هو (7/2)، والأمية فيها 18%.
لماذا هذه الفروق الشاسعة بين بلاد هي من أصل واحد وكانت في وقت ما متساوية؟
لأنه في الثلاث أو أربع قرون الماضية تعرضت هذه البلاد لأحداث أكسبت ثقافاتها إما طابعًا يساعد التنمية والتقدم، أو طابعًا يناهضهما.
فما هي هذه الأحداث؟
إذا نظرنا إلى تاريخ جمهورية هايتي سنجد أن المستعمر الفرنسي عامل السكان بغلاظة، فثاروا عليه، وحصلت هايتي على استقلالها عام 1804، وكانت لم تتخلص بعد من طابعها الأفريقي الذي لا يساعد على التقدم، فبقيت محتفظة بديانة الفودو، وهي ديانة ليست مبنية على المسئولية الفردية، ولا تربي الضمير والاحساس بالخطأ. وتوالى على هايتي الكثير من الانقلابات، والنظم الدكتاتورية التي لم تهتم بتنمية الشعب، ومن ناحية أخرى فالرئيس ألهاندرو بيتيون قسم مزارع قصب السكر إلى قطع أرض صغيرة ووزعها على المزارعين، فقل تصدير السكر، والفرق واضح بالعين المجردة بين هايتي وجارتها الجمهورية الدومنيكية، فإذا انتقلنا بالجو بين طرفي جزيرة هسبانيولا نستطيع أن نفرق بين هايتي حيث تبدو الأرض مهملة وجرداء، والجمهورية الدومنيكية حيث الأرض خضراء وغنية. وفي كثير من المؤشرات سنجد أن هايتي تشبه أصلها الأفريقي، فإذا قارناها ببينين في ساحل العبيد سنجد أن دخل الفرد في هايتي (410 دولارًا) لا يختلف كثيرًا عن دخل الفرد في بينين (380)، ومعدل الأمية في هايتي (55%) يشبه معدل الأمية في بينين (60%)
أما تاريخ باربادوس فهو مختلف تمامًا: تأخرت باربادوس في الحصول على استقلالها (1966)، وفي فترة الاستعمار اكتسبت صفات تساعد على التقدم مثل النظام، وسيادة القانون، وحب العمل، والديمقراطية، والتعليم، والمساواة بين البنين والبنات إلخ...
وإذا نظرنا إلى تاريخ الجمهورية الدومنيكية سنجد انها استعمرت من بلاد مختلفة، وحدث فيها انقلابات، وتقدم غير منتظم، ولكن في مجمله تقدم بطيء من ناحية الديمقراطية، والاقتصاد، إلخ....
ماذا نستخلص مما قدمناه؟
نستخلص أن الثقافة عامل مهم لتقدم الشعوب، وأن في ظروف معينة تكتسب بعض الشعوب المستعمرة (من قبل شعوب أخرى) صفات تساعد على التقدم مستوحاة من مستعمرها المتقدم تنمويًا، وليست هذه وصفة لمساندة الاستعمار لأننا رأينا أن الاستعمار كان غليظًا في الجمهورية الدومنيكية، ونعرف أن الاستعمار البلجيكي كان شرسًا في أفريقيا، ولكنها سرد لملاحظات حقيقية، وسنرى فيما بعد (في مثل الصين واليابان) أن الدولة في بلد غير مستعمر تستطيع هي أيضًا أن تغير من ثقافة الشعب وتضعه في طريق التنمية إذا كان عندها النية للتقدم بشعبها، وسعت لذلك. وسنرى ذلك في أمثلة أخرى في الأسابيع القادمة.
وهنا قالت شهرزاد "تستطيعوا أن تجدوا معلومات أكثر في أعمال الكتاب المنوه عنهم أعلاه، أو في ويكيبيديا، أو البنك الدولي، وكفانا كلام في المباح وغير المباح، وإلى اللقاء في الأسبوع القادم".
د/سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون