الأربعاء، 23 مايو 2012

في النجاح والحياة: 4- من حين لآخر، نقف ونتفكر


عندما كنت أعمل في شركة أدوية عالمية قريبة من مدينة شيكاغو، حدث خلاف بين رئيس الشركة، ورئيس فرع مهم من الشركة اسمه جيم، نتج عنه أن رئيس الفرع جيم قدم استقالته، وترك الشركة. وبما أن وكيل الفرع واسمه دكتور جورج كان قد عُين من طرف جيم، فقد كان من المنتظر أن يستقيل هو أيضًا لأن من عينه قد ترك العمل. وفعلاً استقال د.جورج وترك الشركة، قبل أن يجد وظيفة في شركة أخرى.

وكان د.جورج من عائلة عريقة، فاحشة الثراء، وكان عمره يقرب من الخمسين عامًا، وصحته لم تكن على ما يرام، فلم يكن مضطرًا أن يجد عملاً، ولكنه كان يحب العمل، ولذا لم يفكر أن يتقاعد.

وفي هذا الوقت كان ابنى الكبير حسن يقدم طلبات للالتحاق بالجامعات الأمريكية، فعرض عليه د.جورج أن يكتب له خطابات تزكية لجامعات مهمة، وطلب مني أن أحضر له بعض الأوراق وبعض المعلومات.

وفي يوم أحد مشمس ذهبت في عربتي لأسلم دكتور جورج الأوراق التي طلبها. وجدته واقفًا فوق سلم طويل أمام منزله في الضاحية. سألته: "دكتور جورج! ماذا تعمل فوق هذا السلم العالي؟" قال: "أجهز الحوائط لأبيضها".

دهشت لتصرف هذا الرجل الغني الذي يقوم بعمل العامل البسيط في منزله.

نزل د.جورج من فوق السلم العالي، وشرح لي أنه بعد أن ترك عمله في الشركة يحتاج لوقت ليتفكر، وكثير من الشركات تتصل به بعد أن عرفت أنه قد استقال من منصبه، وتريد أن يلتحق بها، ولكنه يريد وقتًا ليتفكر وليعرف ماذا يريد أن ينجز في السنين القادمة من حياته، والعمل في المنزل يعطيه هذا الهدوء الداخلي ليستطيع أن يتفكر، وقال لي أنه سيسافر هو وزوجته لمدة 3 أشهر إلى أوروبا للاستجمام، سيزور المتاحف ويتفكر.

وفعلاً سافر د.جورج إلى أوروبا، وعندما كان هناك اتصل به رجال أعمال وعرضوا عليه أن يشاركوه فيما ينوي أن يعمل، وعندما رجع إلى شيكاغو قرر أن يُكون شركة أدوية مبنية على علم الجينات، وأصبحت شركته من أكبر الشركات العالمية التي تقدر بمليارات الدولارات.

هذه قصة تظهر أهمية أن نقف في الأوقات المهمة في حياتنا ونتفكر فيما سنعمله، فالتفكر في هذه الأوقات يساعدنا على أن ننظر للأمور بطريقة جديدة وأن نرى فيها ما لم نكن نراه من قبل.

تذكرني قصة التفكر هذه بقصة بحثي للدكتوراه عندما كنت طالبة في جامعة مينيسوتا. كان أستاذي يعتقد أن هناك تفاعلا بين المادة غير الفعالة والمادة الفعالة في دواء، وهذا التفاعل يجعل المادة الفعالة تبقى مدة أطول في الجسم، وتعمل مفعولاً أكثر، لذلك، أعطاني موضوع بحثي أن أدرس كيف تؤثر المادة غير الفعالة على المادة الفعالة.

لمدة سنة كنت أذهب إلى المعمل كل يوم وأجرب طريقة جديدة لتحليل المادتين. وكل يوم تخفق التجربة، ولكني لم أكن أيأس، وفي اليوم التالي كنت أغير شيئًا في طريقة التحليل، وأعيد التجربة مرة أخرى، ومرة أخرى أخفق، ولكني كنت لا أيأس، وهكذا كان الحال لمدة سنة أو أكثر.

وفي يوم ما، مرض ابني واضطررت أن أبقى معه في المنزل لمدة 10 أيام. اضطرني هذا الظرف الطارئ أن أقف وأتفكر، وأقيم ما أعمل.

تساءلت: "ماذا أعمل؟ لقد أضعت أكثر من سنة من عمري دون أن أصل إلى نتيجة، وحتى إذا توصلت غدًا إلى طريقة لتحليل المادتين، فمن يضمن لي أنني سأجد أن المادة تبقى مدة أطول في الجسم، وتعمل مفعولاً أكثر؟ وماذا سيحدث إذا لم يكن هناك تفاعل بين المادتين؟ كل عملي سيكون قد ضاع هباءً".

كانت هذه أسئلة منطقية، ولكني لم أسألها لنفسي من قبل، وكان يجب أن أسألها يوم أن عرض علي أستاذي موضوع البحث، كان يجب أن أرفضه آنذاك، ولكني ككثير من بنات جيلي كنت قد تعودت ألا أناقش من كان في مركز أعلى مني، أو من كانت سنه أكبر من سني. ولأنني كنت قد تعودت الطاعة، وعدم المناقشة، دفعت ثمنًا غاليًا لهما.

اقتنعت أن أغير موضوع بحث الدكتوراه، وطلبت من مكتبة الجامعة أن تحضر لي المراجع العلمية، وفي العشرة أيام التي أمضيتها في المنزل بجانب ابني المريض رسمت خطة مشروع بحثي، وعندما ذهبت إلى المعمل أخبرت أستاذي أنني قد قررت ألا أستمر في بحثي، وأنني قد اخترت بحثًا جديدًا، وشرحت له بحثي الجديد، فوافق عليه، وسار بحثي بسهولة فائقة، وانتهيت منه في وقت قياسي.

وهنا قالت شهرزاد: "كما ترون، هناك مواقف في حياة المرء تتطلب منه أن يقف ويتفكر ويقيم ما عمل، فإذا وصل إلى قناعة أنه يجب أن يغير مسار سيره، وكانت عنده الشجاعة أن يغير مساره، سيجني فوائد عظيمة"، وسكتت عن الكلام المباح.

د/سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون