الخميس، 23 ديسمبر 2010

لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ التعليم والإعلام (5)

مبدئيًا، أقر أنني أكن إهتمامًا خاصًا للأطفال، وللثقافة وللتعليم (خصيصًا تعليم مهارات الحياة)، ولدراسة الظروف المختلفة التي تؤثر فيها الثقافة والتعليم على تقدم الشعوب، فتجدني أقرأ كثيرًا في هذه المواضيع.
ومن المعروف أن التعليم الدنمركي كان أو مازال من أجود أنواع التعليم في العالم، وهناك أسباب كثيرة لذلك، ففي فترة الثورة الصناعية، تحولت بعض البلاد من الصناعات الدقيقة إلى صناعات ثقيلة تتطلب الكثير من العمالة، ولم يكن مطلوبًا من هذه العمالة أكثر من أن يكون تعليمها متوسطًا. لذلك، تحولت المدارس في هذه البلاد من هيئات صغيرة تنتج عددًا صغيرًا من الخريجين يكون تعليمهم جيدًا إلى هيئات كبيرة تنتج عددًا كبيرًا من الخريجين تعليمهم متوسط الجودة. وفي الوقت الذي سارت فيه بلاد مثل الولايات المتحدة الأمريكية في طريق هذا النظام الذي يسمى بنظام التعليم البروسي والذي يخرج عمالاً للمصانع وجنودًا للجيش، فقد إحتفظت بلاد أخرى مثل الدنمرك، وسويسرا وفنلندا بنظام تعليم تقليدي يُقدم في مدارس صغيرة، حيث فترة الدرس لا تقل عن ساعة من الوقت وقد تصل إلى ساعتين، ويبقى المدرس مع نفس التلاميذ أكثر من سنة متتالية،
فيألفونه، ويرعاهم. فهذه هي بعض أسباب جودة التعليم في الدنمرك.
ويحق لنا أن نذكر هنا أن منذ أكثر من عشر سنوات وهناك مجهودات عديدة للتقدم بالتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ أكثر من 6 سنوات وبيل جيتس (مؤسس شركة مايكروسوفت ومن أكبر المتبرعين بالمال للتقدم بالتعليم في الولايات المتحدة) يمول مشروع تحويل المدارس الكبيرة إلى مدارس صغيرة وهو "مشروع المدرسة الصغيرة" (Small School Project). ومع كل هذه المجهودات للتقدم بالتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه كما ظهر منذ بضعة أيام من مؤسسة التعاون، والتنمية الاقتصادية (Organization for Economic Cooperation and Development) في تقريرها السنوي عن "برنامج التقييم الدولي للطلبة" (Program for International Student Assessment)، الذي قيم التعليم في بلاد كثيرة فإن جودة التعليم في الولايات المتحدة مازالت متوسطة وأقل بكثير منها في بلاد مثل فنلندا، وسنغافورة وكوريا الجنوبية. وقد قيل أن هذه النتائج تشير إلى أن هناك عوامل ثقافية في المجتمع تقاوم وتهدر مفعول المجهودات التي تبذل للتقدم بالتعليم في المجتمع الأمريكي. ما هي هذه العوامل؟ لا أحد يعرف بالتأكيد. لماذا نهتم بهذا الموضوع؟ لأننا نسعى دائمًا أن نتعلم من تجارب الآخرين.
نرجع مرة أخرى إلى تجربة الدنمرك. فمن الأسباب التي ساعدت على التقدم بالتعليم فيه هو مناقشة مجتمعية حدثت في غضون التسعينات من القرن الماضي عندما ظهر أن العالم على أبواب عهد جديد، وهو عهد المعلومات، فرأى المسئولون في وزارة التعليم أن يأخذوا رأي المجتمع الدنمركي في القيم والمهارات التي يريد المجتمع أن يعطيها التعليم لأولاده، وكانت النتيجة أن طالب المجتمع بشيئين:
- أولاً أن يعطي التعليم للأولاد مهارات تفيدهم في الاقتصاد المعرفي،
- وثانيًا أن يعطيهم ما يحتاجونه ليكونوا مواطنين مساهمين في ديمقراطية مزدهرة.
بناءً على هذه الإرشادات كونت وزارة التعليم أنواعًا مختلفة من المدارس الثانوية: خاصة، وتقليدية، وتكنولوجية، حتى يكون هناك اختلافًا، وحيوية في التعليم، وكل هذه المدارس تصب في التعليم الجامعي.
هذه القصة أرويها مختصرة عما كتبه د/توني واجنر، أستاذ التعليم في جامعة هارفارد، في كتابه "Making the Grade". في هذا الكتاب استوقفتني معلومة تفيد أن في عام 2001 عندما زار د/واجنر الدانمرك وجد ثلثي أعضاء البرلمان إما تربويين أو من كانوا تربويين في الماضي!! أدهشتني هذه المعلومة وتساءلت "كيف يحدث هذا ونحن نعرف أن الانتخابات تدار بالمال وينتخب من عنده الكثير منه، أو من كان مشهورًا؟ كيف يختار الدنمركيون من كان متعلمًا، أو كفئًا؟ ولا يختارون من عنده المال أو الشهرة؟ لقد رأينا كيف يقبل الأمريكيون أن تكون انتخاباتهم مسابقة في المال، والشهرة، والصورة الخارجية للمرشح أو كاريزما المرشح، ورأينا ممثلين يُنتخبوا رؤساء للدولة، ورؤساء لولاية، ورأينا سيدة إيطالية ذات صيت تشوبه أقاويل المغامرات العاطفية والفضائح تنتخب في البرلمان الإيطالي لأنها مشهورة والناخبون يتعرفون على اسمها".
أوصلتني أسئلتي إلى أن الإجابة قد تكمن في دور الإعلام في الدنمرك الذي لا بد أن يكون مفعوله متواضعًا مقارنة بالإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية أو في إيطاليا، ذلك، لأن الإعلام هو النار التي تشعل الانتخابات التي يغذيها المال والشهرة .
فذهبت إلى ويكيبيديا بالسؤال "دانمرك، تلفزيون" وجاء الجواب فأكد لي ما كنت أشك فيه وهو أن الإعلام في الدنمرك غير متغول كما هو متغول في الولايات المتحدة وفي كثير من البلاد الديمقراطية. كيف ذلك؟ لأن في الدنمرك هناك فقط 3 محطات تلفزيونية قومية تنهي إرسالها في منتصف الليل، وأن على كل من يشتري تلفزيون أن يحصل له على رخصة سنوية ثمنها ما يوازي 2000 جنيهًا مصريًا، وهذه الرخصة تستعمل فقط للقنوات القومية، أما إذا أراد الفرد أن يشاهد قنوات أخرى فعليه أن يشتري رخصة قد يصل ثمنها إلى 500 جنيهًا في الشهر.
نستخلص من ذلك أن الدنمرك تحكم في إعلامه ولم يجعله يتغول كما تغول في بلاد أخرى، وبالتالي فإن الشعب الدنمركي الذي يحظي بقدر عال من التعليم استطاع أن ينتخب من هو كفء دون أن يتحكم الإعلام في اختياراته، أو بالأصح يتحكم المال لأن المال هو الذي يغذي الإعلام. عندما يتحكم الدنمرك في إعلامه فهو يعطي نفسه فرصة لاختيار من هو الأفضل لبرلمانه، ويداوم على التقدم.
هنا تساءلت شهرزاد "هل نستطيع أن نرخص التلفزيون ونتحكم في الإعلام؟ وما فائدة وما خطر ذلك؟ وللكلام بقية"
د/سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون