السبت، 7 يوليو 2012

علم النفس والإعلام والعلاقات العامة -5



رأينا في مدونة سابقة مفعول العوامل الأربعة التي تساعد على خداع الشعوب في الانتخابات الديموقراطية ليخيل لها أنها تنتخب بناء على رغبتها ورأيها الحر، وهي في الحقيقة تنتخب بناءً على ما رسمته لها شركات العلاقات العامة، وبناء على ما نفذه الإعلام من غسيل مخ هذه الشعوب، وبناء على رأي من دفع حساب شركات العلاقات العامة، وحساب الإعلام ليقوموا بعملهم.

وهناك عوامل تساعد أو تحد من قدرات الإعلام على خديعة الشعوب، منها ما يعمل عن طريق الناخب المتلقي للإعلام، ومنها ما يعمل مباشرة عن طريق الإعلام نفسه.

فمن العوامل التي تؤثر عن طريق الناخب، نرى أن الناخب المتعلم الذي تمرن على التفكير النقدي يستطيع أن

يقاوم خديعة الإعلام أفضل من الناخب غير المتعلم الذي لم يتمرن على التفكير النقدي، والملاحظ هنا أننا نتكلم عن التعليم الذي يمرن على التفكير النقدي، وليس أي تعليم. ومن ناحية أخرى فالناخب الذي يمضي الساعات الطويلة أمام التلفزيون يكون أكثر عرضة للتأثر برسالة الإعلام عن الناخب الذي لا يشاهد التلفزيون.

أما عن العوامل التي تحد من تأثير الإعلام المرئي على الناخب مباشرة فنجد أن كثيرًا من البلاد الأوروبية تفرض ضرائب سنوية على أجهزة التلفزيون، ومنها من يفرض ضرائب على أجهزة الاستقبال التي تستقبل عن طريق الدش كما رأينا في الدانمرك، فنجد أن عدد محطات التلفزيون الحكومية ووقت إرسالها محدود ينتهي عند منتصف الليل، والنتيجة أن كل هذا يعمل على الحد من تأثير الإعلام المرئي على المواطن الدانمركي.

وإذا تذكرتم مدونة "سؤال: لماذا الاهتمام بأسباب تقدم أو عدم تقدم البلاد الأخرى؟" أننا قدمنا رأي استشاري التلفزيون موريس شونفلد الذي ينصح من يستشيرونه من مجتمعات نامية أن تحتفظ الدولة بالقنوات التلفزيونية لمدة 20 سنة، وألا تسمح بقنوات تجارية لأن القنوات التجارية كثيرًا ما تجري وراء المال، ولا يهمها الحفاظ على ثقافة المجتمع، فتقدم البرامج الهابطة التي قد تعجب الناس، وتعود بالربح عليها فتضيع ثقافة المجتمع، وللأسف فما نراه الآن هو أن القنوات الحكومية لا تقدم برامج هادفة بل تتنافس مع القنوات التجارية في جلب الإعلانات وتقديم البرامج الرديئة، فتساعد على إهدار ثقافة المجتمع، وعلى جعل الشعب تحت رحمة الإعلام المرئي.

وينصح شونفلد الدولة، في مقابل عدم تقديم قنوات تجارية، أن تعطي لبرامج التوك شو حرية كاملة في النقاش، وفي النقد الحر، القوي، لكي تحافظ على مصداقيتها وعلى تواصلها مع شعبها. وهذا بالضبط ما تقوم به البي بي سي البريطانية التي هي مثل لما أراده موريس شونفلد أن تكون عليه محطات البلاد النامية، فهي حكومية من حيث الميزانية، لأنها تأخذ أموالها من الحكومة، ولكنها ليست حكومية من ناحية إدارتها، فهي تتمتع بكل الحرية من ناحية البرامج والآراء التي تقدمها، وإذا رأت أن من واجبها أن تنتقد الحكومة فهي تنتقدها. وجدير بالملاحظة أن الحكومة البريطانية تعطي لجميع مرشحي الانتخابات وقتًا مماثلاً للدعاية في التلفزيون، وهي بذلك، تحترم مواطنيها، وتساعدهم أن ينتخبوا من يعتبرونه أفضل مرشح بأقل تأثير للإعلام في الاختيار.

أما في بعض البلاد النامية فنجد أن الحكومات لا تكن الكثير من الاحترام لشعوبها، فهي تستعمل محطات الإرسال التلفزيوني التي تتبعها كبوق لها تعضد به أفكارها ومرشحيها، وهي بذلك تقول لشعبها أنها تساعده في الاختيار لأنه لا يعرف كيف يختار.

نهتم بتقديم موضوع الإعلام وتأثير المال على الإعلام وعلى الانتخابات لسببين: السبب الأول، أننا في مصر، في فجر حياتنا الديموقراطية، نعيش وقتًا فيه اهتمام كبير بهذا الموضوع ونحب أن نتعلم من خبرات من سبقونا فيه، والسبب الثاني أن الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا تعيش وقتًا معقدًا يظهر مشاكل تأثير المال على الإعلام ويحق لنا أن نتعلم مما مرت به وتمر به من تجارب، فنقدم بعض المقتطفات من تاريخ محاولة الأمريكان التحكم في إصلاح تمويل انتخاباتهم.

في عام 1972 أصدر الكونجرس الأمريكي قانون لجنة الانتخابات الفيدرالية وفيه طالب المرشحين أن يفصحوا عن مصادر التبرعات الانتخابية التي تصلهم، وطرق صرفها، وفي عام 1974 صدر تعديل للقانون يطالب بألا تزيد تبرعات الأفراد على 1000 دولار، وأن كلاً من المجموعات التي تكونت لتمويل انتخابات وتسمى PAC لا تعطي لكل مرشح أكثر من 5000 دولار، وأن تُكون لجنة الانتخابات الفيدرالية وتكون مسئولة عن كل أمور الانتخابات.

وفي عام 2002 اتفق الحزبان الجمهوري والديموقراطي على تعديل قانون تمويل الانتخابات الفيدرالية بأن زاد المسموح به من تبرعات الأفراد من 1000 إلى 2000 دولار، ومنع التبرعات التي توجه للأحزاب ولكنها تستعمل في الانتخابات، كذلك، منع التبرعات التي لا تعطى مباشرة للمرشح، بل تعطى مثلا للإعلام ولا تقول صراحة أنها تشجع أو تناهض مرشحين معينين ولكنها في الحقيقة تشجعهم أو تناهضهم.

في ظل هذا القانون انتُخب أوباما وكان تمويل انتخابه يعتمد إلى حد كبير على التبرعات الصغيرة التي تقل عن 200 دولار.

ولكن في عام 2010 حكمت المحكمة العليا بأن الأموال التي تدفعها الشركات للمجموعات الانتخابية لتنتج برامج تلفزيونية، هذه الأموال تقع تحت بند "حرية التعبير"، وبالتالي لا يجب أن تخضع لحدود الدعاية الانتخابية!! ونتيجة هذا الحكم أن مليارديرات مثل أدلسون Adelson والأخوين كوخ the Koch Brothers أعطوا في الأشهر الماضية عشرات الملايين من الدولارات لرومني Romney المرشح الجمهوري!! فما نراه الآن هو بضعة مليارديرات يشترون وظيفة رئيس أهم جمهورية ديموقراطية في العالم!!

ما نراه يحدث الآن في الولايات المتحدة هو فضيحة، وفي الحقيقة منذ زمن والأمريكيون يعانون من تأثير المال على انتخاباتهم، فبمجرد أن يُنتخب عضو الكونجرس يمضي أكثر من نصف وقته في جمع التبرعات للانتخابات التالية بدلاً من القيام بعمله!!

ولأن الإعلام المرئي في الولايات المتحدة الأمريكية مملوك لشركات خاصة فلم يستطع الأمريكيون أن يعملوا ما عملته بريطانيا عن طريق البي بي سي، أن يعطوا وقتًا في الإعلام المرئي للمرشحين المختلفين، وحاولوا بطرق مختلفة التغلب على تأثير المال، ولكن كثيرًا من مشاريع القوانين كانت تخفق لأن من يوافق عليها هم أعضاء كونجرس وهم قد وصلوا إلى مناصبهم عن طريق تأثير المال، وهذا ما يجب أن نفكر فيه لأن في مصر هناك ثروات ضخمة قد تكونت أيام الفساد، وربما سيكون من مصلحة من يمتلكونها أن يرجع الفساد عن طريق الانتخابات القادمة.

سنقدم 3 مشاريع أمريكية للتغلب على تأثير المال في انتخابات الولايات المتحدة:

المشروع الأول هو مشروع التمويل المماثل، وهذا النظام يعطي المرشح الحق أن يجمع التبرعات من الناخبين، فتعطيه الحكومة ما يماثل مثلاً أول 250 دولارًا من كل تبرع يأخذه، وهذا النظام يشجع المرشحين أن يجمعوا تبرعات من عدد كبير من صغار المتبرعين، فيكونون أكثر تواصلاً مع عامة الشعب.

المشروع الثاني هو مشروع الانتخابات النظيفة، وفي هذا النظام لا يستطيع المرشح أن يجمع التبرعات من الناخبين إلا لعدد معين من تبرعات عينية (مثلاً 5 دولارات) وعليه أن يجمع عددًا معينًا من أسماء المعضدين له وذلك لكي يُؤهل لأخذ تمويل من الحكومة. وتزيد الحكومة من تمويلها إذا زاد منافسه من تمويله للانتخابات.

والمشروع الثالث هو مشروع الانتخابات بالدولار كما وصفه بروس أكرمان وإيان أيرس في كتابهما: Voting with Dollars: A new paradigm for campaign finance by Bruce Ackerman and Ian Ayres، وفي هذا المشروع تعطي الحكومة لكل ناخب صكًا يوازي 50 دولارًا منها 25 دولارًا للانتخابات الرئاسية، و25 دولارًا تقسم بالتساوي بين انتخابات النواب والشيوخ، ويرسل كل ناخب صكه إلى لجنة الانتخابات الفيدرالية طالبًا منها أن تضعه في حساب المرشح الذي يختاره، فتحول اللجنة الصكوك إلى تمويل نقدي وتعطيه لكل مرشح دون أن تُعرفه بمن أعطوه صكوكهم. يعطي هذا النظام مسئولية تمويل الانتخابات للحكومة، ويحد من تغول التمويل الذي ربما يكون تمويلاً خارجيًا، وأيضًا يأخذ في الاعتبار اختلاف المرشحين، فبعضهم سيأخذ صكوكًا أكثر من الآخرين، وقد نرى في هذا المشروع أفضل نظام نستلهم منه.

وهنا قالت شهرزاد: "علينا أن نخطط ونتدبر"، وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون