الأحد، 5 ديسمبر 2010

لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ العوامل الاجتماعية (3)

فيما قبل قدمنا أمثلة تظهر كيف تؤثر ثقافة الشعوب على تقدمها، ورأينا أن بعض العوامل تهيئ للتنمية، والبعض الآخر يناهضها، وبدأنا في تقديم العوامل كما اكتشفها ماريانو جروندونا، وكما قسمها لورنس هاريسون إلى 4 مجموعات: عوامل إجتماعية، وطبائع إقتصادية، وأخلاقيات، ونظرة المجتمع إلى العالم الخارجي.
وبدأنا في تقديم العوامل الاجتماعية، فأكدنا أن سيادة القانون من أهم الأسباب الاجتماعية التي تساعد على تقدم المجتمع. وفي البلاد التي لا يسود فيها القانون تجد مظاهر ثقافية-إجتماعية، بعضها خطير، والبعض الآخر قد نعتبره بسيطًا، ولكنه ذو نتائج لا تقل خطورة عن المظاهر التي نعتبرها أصلاً مظاهر خطيرة.
وعلى سبيل المثال من المظاهر الخطيرة التي تنتج عن عدم سيادة القانون هو انتشار الفساد، والمحسوبية والرشوة، وينتج عنهم إهدار للمال العام، ولكن أخطر من هذا الإهدار في المال، هو إهدار في كفاءة المجتمع، نتيجة لعدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، فتقل كفاءة العمل والإنتاج في المجتمع، ويتكون في وجدان من ظلمه الفساد غضب وعدم إنتماء لمجتمعه، ويقال أن هذه هي الطريقة المثالية التي تستعمل في هدم الدول من الداخل.
وينتج أيضًا عن عدم سيادة القانون أن يلجأ الفرد إلى أخذ حقه بنفسه لأنه لا يثق أن هناك قانونًا سيعطيه حقه، وينتج عن هذا إنحدارًا مدنيًا إلى قانون الغابة: البقاء للأقوى.
وهناك مظاهر من عدم سيادة القانون قد يخيل لنا أنها بسيطة فنستهين بها، ولكنها تنقص من قابلية المجتمع على التقدم والتنمية، فعلى سبيل المثال عندما يمر موكب شخصية سياسية في الطريق تتدخل الشرطة في المرور العام وتعطل مرور آلاف المواطنين لوقت طويل، فينتج عن هذا التفضيل 4 توابع ضارة للمجتمع:
- أولاً، يتأخر الآلاف من المواطنين عن عملهم، وهذا الوقت المهدر يقدر بالملايين من الجنيهات،
- ثانيًا، يتعود الشعب أن يستهين بقيمة الوقت وبالدقة في المواعيد ("أنا إمبارح إتأخرت عن العمل ساعة لأن كان فيه موكب، وكانت الدنيا واقفة، والنهاردة مش مشكلة لو إتأخرت نصف ساعة") وتضيع منه هذه الصفة الثقافية المهمة للتقدم،
- ثالثًا، يُعرف عن هذا المجتمع في المجتمعات الدولية أنه قليل الإنتاج بسبب مشاكل المرور به فتقل فرصته في جذب الشركات الدولية، وإذا كان بلدًا سياحيًا فعلى مدار السنين يقل عدد السائحين الذين يأتون لزيارته،
- رابعًا، عندما يتسبب موكب الشخصية السياسية في تأخير الآلاف من المواطنين عن عملهم، يخلق هذا لديهم إحساسًا بالغضب، وعدم الانتماء للمجتمع الذي لا يقدر وقتهم ولا يحترمهم.
- ولنرجع مرة أخرى إلى تقسيم لورنس هاريسون للعوامل الثقافية التي تؤثر على تقدم الشعوب، فبعد أن أكد أهمية سيادة القانون فهو يؤكد (كما أكد من قبله روبرت باتنم) أن المجتمعات التي تتقدم هي مجتمعات بها تجمعات أهلية أو خيرية، يعمل فيها الأفراد معًا لمصلحتهم الجماعية، وهذا ما يسمى بـ"الرأسمال الاجتماعي".
لقد تكلمنا في برنامج "أنا ونحن" عن الثراء، وأن الثراء ليس بالضرورة ثراء المال، فقد يكون ثراء المعرفة، أو ثراء الصداقة، أو ثراء النفس، كذلك هو الحال مع الرأسمال، فهناك الرأسمال المالي، ثم هناك الرأسمال الاجتماعي وهو الثروة الناتجة من ثقافة وطباع، وأفكار، وأخلاقيات أفراد المجتمع كما تظهر في اهتمامهم بمجتمعهم، وعملهم له. وقد اثبتت الدراسات أهمية الرأسمال الاجتماعي لتقدم الشعوب.
والرأسمال الاجتماعي لا يورث عن طريق الجينات، ولكنه يورث عن طريق ثقافة المجتمع. وهو قابل للتقدم وأيضًا قابل للضياع.
من أين يأتي الرأسمال الاجتماعي؟
هناك أسباب وعوامل مختلفة تساعد أو تناهض تكوين الرأسمال الاجتماعي في مجتمع ما:
- هناك عوامل ثقافية في المجتمع نفسه، فعلى سبيل المثال رأينا في دراسة إدوارد بانفيلد للقرية الفقيرة في جنوب إيطاليا أن أفرادها كانوا منغلقين على عائلاتهم، كل فرد يهتم فقط بعائلته، ولا يساعد الآخرين، ونتج عن ذلك أن أصبح المجتمع فقيرًا، لأنه لم يُكون تواصلاً بين عائلاته، وأصبحت العائلات هي أيضًا فقيرة،
- ثم هناك ظروف خارجية تؤثر على الرأسمال الاجتماعي: ففي المجتمعات التي تتعرض لكوارث طبيعية مثل الفيضانات، إذا جاءت كارثة تكاتف كل فرد من أفراد المجتمع للتغلب عليها، الكل يتكاتف، الغني والفقير، والرجال، والسيدات، والأطفال، لن يتقاعس أحد، ولن يقول أحد "ما عنديش حريم يظهروا على الرجال". وبعد الكارثة تبقى عادة العمل الجماعي التي تحافظ على نسيج وكيان المجتمع. في كتابه "ألعب بولينج لحالي" يكتب عالم الاجتماع الشهير روبرت باتنم أن لعبة البولنج انتشرت في أمريكا الشمالية كمظهر من مظاهر الرأسمال الاجتماعي، فالمهاجرون الأوائل لهذه البلاد كانوا في حاجة لأن يتواصلوا ويتكاتفوا مع إخوانهم المهاجرين الآخرين ليستطيعوا أن يكونوا لأنفسهم مكانًا في هذه البلاد الوعرة، الخام، فأصبح من عاداتهم التواصل، والاهتمام بالآخر، وتكوين الرأسمال الاجتماعي، ومن بعدهم نشر أولادهم لعبة البولنج، حيث تلعب العائلة معًا يوم الأحد بعد الكنيسة، وحيث يكون الأفراد فرق بولنج، ومباريات دورية وقومية. وفي الستينات من القرن العشرين لاحظ باتنم نقص في مشاركة الناس في العمل الاجتماعي وفي الجمعيات الخيرية، وأيضًا نقصت فرق ومباريات البولنج (فأصبح من يريد أن يلعب بولنج يلعب لحاله)، فقرع ناقوس الخطر أن الرأسمال الاجتماعي الذي يفتخر به الأمريكيون أصبح في خطر.
- ومن الممكن ترشيد تكوين الرأسمال الاجتماعي، فعلى سبيل المثال تدرب المدارس الثانوية الأمريكية طلابها على العطاء لمجتمعهم من وقتهم ومن مجهودهم، فتطلب منهم أن يقوموا بعمل تطوعي مثل مساعدة الممرضات في المستشفيات، أو قراءة الجرائد لنزلاء دور المسنين، وفي المجتمع الأمريكي الكل يتطوع، الصغار، وربات البيوت، حتى المسنين يتطوعون، كل حسب قدرته.
هنا قالت شهرزاد "لقد قدمت لكم جواهر ثمينة، وحان الوقت أن أسكت عن الكلام المباح وللكلام بقية"
د/سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون