الجمعة، 12 نوفمبر 2010

لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ العوامل الاجتماعية -1-

عندما كتبت في كتب "أنا ونحن" عن أهمية تصرفات وأخلاقيات نتمنى التحلي بها مثل تكوين الأهداف، والنظام، والادخار، والانتماء للعمل، كنت أعرف أن هذه التصرفات والأخلاقيات مهمة، ولكني لم أكن أتصور إلى أي مدى هي مهمة وإلى أي مدى تساعد على تنمية وتقدم الشعوب.
منذ بضعة أشهر مضت قرأت كتابًا للورنس هاريسون، وكان مديرًا للمعونة الأمريكية في بعض بلاد أمريكا الجنوبية. كانت وظيفة د/هاريسون تتطلب منه أن يعطي المعونة لمشروعات مختلفة في هذه البلاد، ثم ُيقيم مفعول المعونة، فوجد أن بعض البلاد تتقدم نتيجة للمعونة، والبعض الآخرلا يتقدم. كذلك، لاحظ أن في ستينات القرن الماضي كانت كل من كوريا الجنوبية وغانا تتشابهان في كثير من أوجه إقتصادهما، وفي أقل من ثلاثين عامًا إختلف الأمر إذ أصبحت كوريا الجنوبية عملاقًا صناعيًا، بينما لم تتقدم غانا كثيرًا، وأصبح إجمالي دخلها القومي 15/1 من دخل كوريا الجنوبية! ونستطيع أن نقول عين الكلام عن الهند ومصر التي كانتا تتشابهان في ستينات القرن الماضي، والآن الهند فاقت مصر في كثير من المجالات.
تسائل د/هاريسون: لماذا تتقدم بعض البلاد، بينما لا تتقدم بلاد أخرى؟
ونتيجة تساؤله وملاحظاته الدقيقة توصل إلى نتيجة أن عند البلاد التي تنمو عوامل ثقافية تجعلها قابلة للتنمية، فتجد فائدة من المعونة وتنمو، أما البلاد المناهضة للنمو فتنقصها هذه العوامل. فما هي هذه العوامل؟
شدت هذه الأفكار اهتمام د/هاريسون وقرر أن يدرسها، فترك وظيفته في المعونة الأمريكية والتحق بجامعة هارفرد كأستاذ زائر، وجمع في مؤتمر كبير كثيرًا من العلماء المهتمين بمفعول الثقافة على تنمية الشعوب، وأخرجوا معًا كتابًا مهمًا عن هذا الموضوع. ثم عاود دراسته، ولقح أفكاره بأفكار عالم أخر اسمه ماريانو جروندونا، وتوصل إلى عدة عوامل في ثقافة المجتمع تجعله إما قابلاً للتنمية أو مقاومًا لها، وقسم هذه العوامل إلى 4 مجموعات: عوامل إجتماعية، وطبائع إقتصادية، وأخلاقيات، ونظرة المجتمع إلى العالم الخارجي.
في مدونتنا اليوم سنقدم بعض العوامل الاجتماعية التي إذا تواجدت في مجتمع ما ساعدت على تنميته، وعدم تواجدها يقف عائقًا في طريق هذه التنمية.
- على رأس قائمة هذه العوامل هو سيادة القانون سيادة تامة، أي نعم سيادة كاملة. ففي البلاد القابلة للتنمية يطبق القانون على الغني والقوي مثلما يطبق تمامًا على الفقير والضعيف، ومن يُفسد يعاقب، والوساطة لا تتحكم في الأعمال أوالتعيينات، فلا تسمع "إنت عارف إنت بتكلم مين؟" لأن لا يهم أحد من أنت، فما يهم هو ما عملت، وهل ما عملت يخالف القانون أم لا؟ فإذا كان ما عملت مخالفًا للقانون فلن ينفعك جاه أو ثروة. ويتعلم الطفل منذ الصغر أهمية احترام القانون، إبتداء من قانون النظام في الفصل والمدرسة، إلى قانون المرور، وإلى كل قانون، ليس هناك خيار أو فاقوس.
يقال أن في الخمسينات من القرن الماضي عندما كانت فرنسا تمر بفترة اضطرابات عصيبة ذهب بعض السياسيين الفرنسيين إلى الجنرال ديجول بطل المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية وطلبوا منه أن يرجع مرة أخرى إلى حكم فرنسا، فسألهم كيف حال القضاء؟ قالوا "مازال نزيهًا"، فسأل "كيف حال التعليم؟"، فأجابوا "ما زال بخير"، فأجابهم "إذًا، نستطيع أن نبني فرنسا من جديد"، وقد كان، فأسس الجمهورية الخامسة، وكان أول رئيسًا لها، وعمل دستورًا لها، وقام بإصلاحات عدة. وكان في كل هذا يرتكز إلى سيادة القانون، والتعليم الجيد.
- قطر التعارف والثقة هو العامل المهم الثاني في التنمية. ففي المجتمعات المناهضة للتنمية تجد الناس يثقون فقط في أقربائهم، وأصدقائهم، ومن يعرفوهم، أي من "هم مثلهم" (كما رأينا في "أنا ونحن، إختلافنا وتواصلنا" في وصف إدوارد بانفيلد للإنغلاق العائلي، حيث تنغلق العائلات على نفسها، فتبقى فقيرة) ويتواصلون فقط مع من "هم مثلهم" أو يضعوا أنفسهم فقط في مكان من "هم مثلهم"، أما في المجتمعات القابلة للتنمية فتجد أن التعارف والثقة لا يقتصران على العائلة والأصدقاء أو "على المثل" بل يشملا مجتمعًا قطره واسع، مجتمع يثق فيه الناس في بعضهم البعض، ويستطيع الفرد أن يتعامل مع من لا يعرفه لأنه واثق أن هناك قانون يُحترم، سيسانده وقت الحاجة. أذكر حديث في شيكاغو منذ أكثر من عشرين عامًا حاول فيه أجنبي أن يقنع رجل أعمال أمريكي أن يقوم بمشروع في بلده، فكان رد الأمريكي "أنا أفضل التعامل مع رجال الأعمال من بلد كذا (وهو بلد عربي) فعندما نتفق ونتصافح، يكون هذا بمثابة اتفاق مكتوب، فلهذه الثقة أفضل التعامل مع هذا البلد"! والمعروف أن الثقة ليست فقط ميسر للعلاقات التجارية، ولكنها أيضًا ميسر للتقدم العام للمجتمع، فعندما يضع الناس أنفسهم مكان الآخر سيزكوا بأموالهم، ويدفعوا الضرائب برضاء، ويُكونوا الجمعيات الخيرية، ويجتمعوا في تجمعات أهلية لمناقشة مواضيع تهمهم كمجتمع واحد. في المجتمعات التي يحدث فيها الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات، يحتاج الافراد أن يجتمعوا في تجمعات أهلية ليساعدوا البعض في التغلب على الصعاب، ومن هنا تكونت مجالس القرى في بلاد العالم.
- للعائلة دور مهم في تنمية المجتمع، فهي مهد أخلاق الفرد الذي يكون المجتمع. لاحظ هاريسون أن المجتمعات التي تُكون فيها العائلة حصنًا يتحصن فيه الفرد ضد القانون (مثل المافيا)، هذه المجتمعات لا تتقدم، لأنها تهدر الشرط الأساسي لتقدم الشعوب وهو سيادة القانون. هل فكرت أن مثلنا الشائع "أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب" فيه كسر لسيادة القانون، وبالتالي قد يكون عاملاً لعدم تقدم مجتمعنا؟
إذا تمعنا في الأسباب الاجتماعية التي سردناها كأسباب تساعد على تقدم الشعوب نجدها كلها ترتكز إلى سيادة القانون، فإذا أردنا لبلدنا أن يتقدم فعلينا أن نقتنع أن الشرط الأساسي لذلك هو أن نجعل سيادة القانون منهجًا لحياتنا ومسئوليتنا جميعًا، وليس فقط مسئولية الجهات المختصة، وأن سيادة القانون تشمل كل قانون إبتداء من قانون المرور، إلى الرشوة، والفساد، إلخ. ربما لن نستطيع أن نغير كثيرًا، ولكن، يكفينا حاليًا أن نعرف كيف يجب أن يكون الحال السوي. وهنا سكتت شهرزاد عن الكلام المباح، وقالت "للحديث بقية".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون