الخميس، 22 أغسطس 2013

ميرفت المنوفية


ميرفت تعمل جديدًا عند صديقتي أمينة.

كل صيف في مارينا أحب أن أتزاور مع أمينة. فطوال السنة لا نتقابل كثيرًا لأنه من ناحية أمينة كثيرة السفر، أو بالأصح، زوجها، منذ أحيل إلى المعاش وهو يحب السفر الكثير، ومن ناحية أخرى أنا منشغلة إما بالمؤسسة، أو بالسفر لأبنائي حسن في لندن، وطارق في دبي أو شيكاغو.

وعندما نتقابل، أنا وأمينة، نتكلم عن الأولاد والأحفاد، وسفرياتنا، ومشكلات العاملين، ولكن هذا الصيف كان الحديث مختلفًا. لم تتكلم أمينة عن مشكلات العاملين بل تكلمت بحماس شديد عن عاملة جديدة تركتها لها إبنتها إثر سفرها إلى لندن.

كانت أمينة شديدة الاعجاب بميرفت.

ميرفت شابة عندها 28 عامًا، تتكلم بلهجة ساكني أرياف دلتا مصر، طويلة ممشوقة القوام، تدل طريقة مشيها أنها في يوم ما كانت رياضية، وهي نظيفة، أمينة، ذكية، نشيطة، تعمل بهدوء، منظمة في عملها، خبيرة في عمل المنازل، لا تبخل على عملها بمجهودها، تتقن عملها، ولا تنتظر أن يأمرها أحد بما تعمل، فهي تنظر إلى ما حولها وتتصرف بناءً على ما ترى الوضع حولها يحتاجه.

وميرفت تعرف ربنا وتصلي بانتظام، وهي تحب القراءة وتقرأ ليلاً في حجرتها، وهي حاصلة على شهادة دبلوم التجارة، وعندها فضول كبير، تحب أن تتعلم أشياءً جديدة، فعندما رأت أمينة تحيك كروشيه طلبت منها أن تعلمها كيف تحيكه، فعلمتها أمينة، وصنعت ميرفت ملابس من الكروشيه هدية لرضيع أختها وطفل صديقتها.

تقول أمينة أنها تعودت كل صيف قبل أن تسافر إلى الساحل الشمالي أن تبعث العاملين لتنظيف الفيلا ثم تأتي هي وزوجها ويجلبا معهما احتياجاتهما المنزلية، ثم تمضي بعض الوقت لتنظيم هذه الاحتياجات في أماكنها، ولكنها هذه المرة بعثت احتياجاتهما المنزلية مع ميرفت، وبالفعل استطاعت ميرفت أن تقوم بدور أمينة في ترتيب كل هذه الاحتياجات في أماكنها فأراحت أمينة من هذه المسئولية. وما زاد من اعجاب أمينة أن ميرفت طباخة ماهرة، عندها قابلية لتعلم ما هو جديد من أنواع الطعام، تستطيع دون مساعدة أن ترتب السفرة وتعرف الأدوات المستعملة في العزومات.

وتتقاضى ميرفت أجرًا يوازي ما يدفع للعاملات من الفيلبين، لأنها لا تقل عنهن كفاءة، ومع ذلك، فهي متواضعة، لا تتعالى على باقي العاملين في المنزل كما كانت تتعالى العاملة التي سبقتها في العمل، فعند تناول الطعام تأخذ طبقها وتذهب إلى مكان حارس الفيلا لتأكل معه ومع سائق العربة.

التمعن في دراسة الصورة التي تعطيها لنا ميرفت تظهر لنا أن هناك عوامل تربوية تدخلت في تكوينها جعلتها على ما هي عليه من صفات، وأن هذه العوامل مختلفة عما يتدخل في تكوين صفات معظم العاملات اللاتي يعملن في المنازل. فزاد فضولي لمعرفة هذه العوامل آملة أن أصل إما إلى أفكار جديدة أو تأكيد بعض أفكاري في خلق جيل مصري يتقن عمله ويتمتع بالصفات التي رأيتها في ميرفت.

بعد العشاء جلست مع أمينة وميرفت أسأل ميرفت أن تقص علي قصة حياتها.

قالت أنها من قرية صغيرة في المنوفية، وأن والدها "أوستورجي" أي يعمل في دهان الأخشاب بمواد كيميائية، وأنه قد فقد بصره منذ سنين (ربما نتيجة للمواد الكيميائية التي كان يستعملها) فأصبح لا يعمل.

سألتها عن والدتها، فقالت أنها أسست في القرية محلًا صغيرًا تبيع فيه الخردوات، والبقالة وتقلي فيه الطعمية. وظهر من صوتها أنها تكن الكثير من الحب والتعاطف لأمها.

سألتها إن كانت بدأت تعمل وهي صغيرة، قالت، نعم، فهي تعمل في الحقول طول عمرها حتى وهي تدرس في المدرسة، وأنها كانت متقدمة في الدراسة، وأن أكثر المواد حبا إلى قلبها كانتا الرياضيات واللغة الانجليزية، وأنها تجيد إلى حد ما اللغة الانجليزية، وأنها طوال الدراسة كانت تحب القراءة، وتقرأ كثيرًا، ثم قالت جملة، وجدتني أتوقف عندها: "أمي علمتني أنني عندما أعمل شيئًا لا أتركه حتى أتقنه، فكنت أعيد، وأزيد في الواجب حتى أكون مرتاحة له".

هذا هو سر ميرفت!

لقد زرعت أمها فيها إتقان العمل، فعملت في كل أوجه حياتها على أن تتقن ما تعمل، ونتيجة ذلك أنها اصبحت تعتز بما تعمل، وبالتالي تعتز بنفسها، وكان هذا الاعتزاز سببًا في أن تحترم نفسها وأن تتقن عملها لتداوم على اعتزازها واحترامها لنفسها.

بعد أن حصلت على شهادة دبلوم التجارة، إلتحقت ميرفت بملجأ أيتام، ولكنها لم تمكث فيه أكثر من شهر لأنها وجدت القائمين عليه يسيئوا معاملة الأطفال اليتامي، فيأتون بالطعام الجيد لأنفسهم، ويمنعونه عن الأطفال.

تقدمت ميرفت للعمل في ملجأ يتامى يتبع هيئة أجنبية، ويعمل بنظام جميل، فكل 7 أو 8 أطفال يتراوح أعمارهم من بضعة أشهر إلى 16 سنة يكونون عائلة تسكن بيتًا منفصلاً مع من تسمى "أمهم". ومسئولية الأم مسئولية كاملة عن البيت والأطفال، فالمؤسسة تعطي الأم مصروفًا أسبوعيًا للمنزل وللأطفال، والأم تعطي كل طفل 2 جنيهًا يوميًا كمصروف يد يصرفه أو يدخره، وتشتري الأم من مصروف المنزل كل ما يحتاجه الأطفال والمنزل من مأكل وملبس وأدوات مدرسية، وأدوات نظافة، وهي مسئولة عن المشتريات، وادوات المطبخ، فهي ككل أم تسأل أطفالها عما يريدون أن يأكلوا، وتحضره لهم، وهي مسئولة عن النظافة، وعن تعليم الأطفال الصلاة ومهارات الحياة من نظام ونظافة، والتأكد أن كل شيء في المنزل يسير مثل الساعة، وتعامل أطفالها باحترام ولا تستعمل الضرب معهم. والهيئة الأجنبية تباشر عمل الأم للتأكد من أن المنزل نظيف والثلاجة بها طعام، والمصاريف منضبطة، والأولاد يتقدمون في المدرسة، إلخ..

عندما تقدمت ميرفت للعمل في الملجأ لم يوافق المسئولون عليها لصغر سنها التي كانت تقارب سن أطفالها، ولكنهم بعد أن أعطوها امتحانات اقتنعوا أن عندها من الكفاءة والنضج ما يساعدها على القيام بمهام الأم. وبقيت ميرفت 3 سنوات في الملجأ سقلت فيهم من كفائتها.

تزوجت ميرفت، وحملت، ولكن زوجها كان عنيف، يتعاطى المخدرات. لم تحتمل الحياة معه، فكان عندها من الشجاعة ما يجعلها تعرف أن هذه هي قضية خاسرة فانفصلت عنه، وبمساعدة والدتها لها في تربية ابنها، رجعت ميرفت مرة أخرى للعمل في المنازل.

عملت ميرفت عند دكتور جامعة متزوج من سيدة أجنبية. عاملوها كابنتهم، فكانت تسير في "التراك" في النادي مع سيدة المنزل، وتمرنت على اللغة الانجليزية، واتقنت فنون الطبخ وترتيب السفرة ونظام المنزل. وعندما سافر الدكتور وزوجته إلى الخارج إنتهى الأمر بميرفت عند عائلة أمينة.

ماذا نستخلص من هذه القصة الحقيقية؟

نستخلص على الأقل ثلاثة أشياء: أولاً، أهمية إتقان العمل، وهي من الأفكار المهمة في كتاب "أنا ونحن الشباب" فإتقان العمل سر شخصية ميرفت، وثانيًا، أهمية الثقة في النفس، وهي الفكرة الأساسية في كتاب "أناME" وقد اكتسبت ميرفت ثقتها بنفسها من اتقانها لعملها، وثالثًا، نستخلص إن الشخص السوي الذي يتمتع بالثقة في النفس عندما يجد نفسه قد أخطأ، يجد في نفسه الشجاعة أن يتراجع عن خطأه، وهذا ما عملته ميرفت في حالتين، في حالة الملجأ الأول، وفي حالة زيجتها الفاشلة.

وهنا قالت شهرزاد: "قصة حقيقية جميلة أتمنى أن يُستفاد منها"، وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري

www.anawanahnoo.blogspot.com
www.facebook.com/SouheirElmasry
twitter.com/Souheir_Elmasry

هناك تعليق واحد:

  1. عزيزتى الدكتورة سهير

    عند قرائتى لتلك المدونة ولا أخفى عليك سراً أننى شعرت بصدق ما تقصينه لدرجة أننى كنت متخيل أننى موجود معكم أثناء حديثها معك.

    ما أود التعليق به حقيقة أن تلك الفتاة سوف تعتز بنفسها اكثر عندما تعرف بأنك قد كتبت عنها مدونة كاملة.

    ويجب أن نؤكد فعلاً على صفات:

    الأمانة
    الثقة فى النفس
    الشجاعة وحسن اتخاذ القرارات


    أشكرك على تلك المدونة الجميلة الباعثة بالأمل

    أ/محمد

    ردحذف

المتابعون