الثلاثاء، 1 يناير 2013

كثير من الحب والاحترام


قد رويت هذا الحادث في إثنين من كتبي وهما "مخاطر التلفزيون على مخ الطفل" و"تربية أبنائنا فن"، ومع إنني لا أحب أن أكون مثل الاسطوانة المكسورة وأعيد تكرار ما أقول، إلا أن الأفكار الثقافية تتكون عندما يعرض الموضوع من أكثر من جهة وبأكثر من طريقة، وهناك أمور ثقافية اعتبرها في غاية الأهمية وأحب أن أؤكد عليها، فمن وقت لآخر عندما يحدث حادث أجد فيه تأكيدًا لفكرة اعتبرها أساسية أحب أن أقدمه آملة أن يكون في ذلك تغييرًا لبعض الظروف الصعبة التي نعيشها.

في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي اهتم تشوتشيسكو ديكتاتور رومانيا بزيادة تعداد سكان بلده فشجع السيدات الحوامل اللاتي لا يردن الاحتفاظ بحملهن أن يحتفظن به ويسلمن مواليدهن للدولة، وشيد الأبنية التي تسلم فيها هذه المواليد ويُعتنى بهم فيها. ففي هذه الأبنية كانت توضع المواليد في أسرة، سرير بجانب سرير، بجانب سرير، وتأتي الممرضة المختصة فتغير
الحفاضة لطفل وراء طفل، وراء طفل، وتعطي زجاجة اللبن لطفل وراء طفل وراء طفل، دون أن تحتضن أو تلاعب أي طفل أو تظهر مظهرًا من الحب أو الاهتمام لأي طفل.

عندما قامت الثورة في رومانيا واعدم تشوتشيسكو عام 1989 كان هناك في هذه الأبنية آلاف من أطفال هذا المشروع تتراوح أعمارهم بين بضعة شهور وعشر سنوات أو إثنتي عشرة سنة. والحزين في الموضوع أن كثير من الأطفال كبار السن منهم كانوا قليلي الذكاء، بل نقول أنهم كانوا أشبه بالمعتوهين. وقد رأيت في أواخر التسعينات من القرن الماضي فيديو لهؤلاء الاطفال عندما كنت عضوة في لجنة الطفل والشباب والعائلة لوقفية مدينة شيكاغو وعرضت عضوة في اللجنة الفيديو فرأيت أطفالا منظرهم يدمي القلب! 

اهتم العلماء بهذه الظاهرة. لماذا كان هؤلاء الأطفال شبه معتوهين فهم كانوا مُعتنى بهم جسمانيًا وصحيًا؟

قام د. هاري تشوجاني Harry Chugani من جامعة وين ستيت في ديترويت بعمل العديد من عمليات المسح الذري لأمخاخ هؤلاء الأطفال، وبما أن المخ بخلاف أي عضو في الجسم لا يستعمل النشويات أو الدهنيات، ويستعمل فقط الجلوكوز، فوفقًا لمسح PET أدخل جلوكوز مشع إلى المخ وقارن بين الطريقة التي يتعامل بها مخ الطفل الروماني الذي تربى في هذا المشروع والطفل الأمريكي الموازي له سنًا فوجد أن الأماكن النشيطة في مخ الطفل الأمريكي تكسر الجلوكوز ويترسب فيها اشعاع الجلوكوز فتظهر في المسح الذري حمراء ساطعة الضوء، أما مخ الطفل الروماني فلا يكسر الجلوكوز ويظهر مظلمًا في المسح الذري، كما يظهر المخان في الصورة التالية!!



هذا يعني أن مخ الطفل الذي تربى دون حب لا يعمل بطريقة جيدة، أي أن مظاهر الحب التي نظهرها لأطفالنا تساعد على نمو وعمل مخهم!! وتأكيدًا لهذه الفكرة الخطيرة، عندما تبنت بعض العائلات الأطفال الرومانيين واعتنوا عاطفيًا بهم استطاعوا مع الأطفال صغيري السن أن يرتفعوا بهم إلى المستوى الطبيعي، ولكن بالنسبة للأطفال في سن إثنى عشر سنة فكانت قد ضاعت فرصة تغييرهم ولم يتغيروا.

هذه ليست التجربة الوحيدة التي تثبت أهمية الحب في نضوج مخ الطفل.

تذكرت هذه القصة عندما قصت علي مدربة من المؤسسة حادثًا غريبًا، فهي تقدم الجزء الأول من برنامج "أنا ونحن" لفصل خمسة ابتدائي في منطقة شديدة العشوائية. كانت تعمل نشاطًا مع أطفال سنهم حوالي عشر سنوات فجرحت طفلة أصبعها عندما لمست قطعة زجاج مكسورة. أخذتها المدربة واهتمت بها ونظفت جرحها ووضعت شريطًا عليه. نظر طفل إلى المدربة وهي تهتم بالطفلة ووضع أصبعه على قطعة الزجاج وضغط عليه، فخر الدم، فرفع أصبعه قائلاً "مس، أنا كمان جرحت اصبعي"!!

طفل متعطش للاهتمام والحب لدرجة أنه مستعد أن يؤذي نفسه ويسيل دمه ليجد بعض الحنان، وهو ليس الوحيد المتعطش للحنان في هذا الفصل، فعندما تجد مدربة نشاط "أنا ونحن" أن الأطفال قد تمادوا في الضوضاء تهددهم إن لم يسكتوا لن تحضر مرة ثانية إليهم، فيسكت الكل وتستطيع أن تسمع الإبرة ترن على الأرض، وهي في ذلك على نقيض من المدرس الذي يليها، فهو يدخل الفصل حاملا عصا طويلاً ليفزع الأطفال بسطوته.

هؤلاء الأطفال ضحايا أهل لم يعطوهم حب واهتمام، ولكن الأهل أيضَا ضحايا ظروف تجعلهم مشغولون بلقمة العيش، وهم الدنيا، وعندهم بدل الطفل دستة لأنه عندما كانت الحكومة تشجع تحديد النسل كان الشيخ الذي يُحفظ القرآن يقول لهم لا تحددوا النسل فكل طفل يأتي ورزقه معه.

وهؤلاء الاطفال أيضًا ضحايا المدرس الذي يدخل الفصل بعد المدربة، يدخل وفي يده عصا طويلة يظهرها جيدًا للأطفال ليزرع في قلبهم الخوف أو ما يسميه الهيبة والاحترام لأنه يخلط بين الخوف والاحترام، فهو يزرع في الأطفال الخوف ومع الخوف العنف، والمعروف من دراسة الحيوانات المتوحشة التي يروضها الإنسان أنه إذا اعتنى شخص بحيوان متوحش منذ ولادته، ولم يجعل الخوف يدخل قلب الحيوان بل عامله بحب فلن يضره الحيوان حتى إذا كان حيوانًا متوحشًا، أما إذا عامل هذا الشخص حيوانه بعنف وأدخل الخوف في قلبه فلن يتورع أن يلحق الضرر به إذا واتته الفرصة.

العنف يولد العنف، وهذا ما رأيناه ثاني يوم حادث الطفل الذي جرح أصبعه لتهتم به المدربة، ففي فصل آخر من نفس المدرسة ضرب مدرس طالبًا فتجمع أصدقاء الطالب وأعطوا المدرس علقة ساخنة في حوش المدرسة حضرت في إثرها الشرطة!!

أجد نفسي أتسائل"إلى أين المسير يا مصر؟"، متى سندرك أن العنف لن يأتي إلا بعنف؟ لقد عاصرت في حياتي في الغربة الكثير من الأمهات اللاتي كنا يتعاملن مع أولادهن بالضرب والعنف فكانت النتيجة تعيسة للأطفال وللأهل، وربما نرى ذلك بطريقة واضحة أكثر في المجتمع الغربي الذي يهاجر إليه شعوبنا أكثر مما نراه مع شعوبنا عندما يبقون في بلادهم، ذلك لأن الشباب في الغرب عندهم فرصة أكثر أن يظهروا العنف الذي يتكون فيهم، أما عندنا فلظروف عدة يضطر من يكون ضحية عنف أن يخبئ العنف بداخله إلى أن تحين الفرصة لإظهاره. هذا ما رأيناه بعد الثورة. يعتقد البعض أن الثورة والاحساس الخاطئ بفكرة الحرية خلق العنف في بعض الشباب، ولكني أعتقد أن العنف كان مختبئًا في مجتمعنا، والاحساس بالحرية أطلقه من مخبئه.

أقدم لقراء المدونة هذه الصورة لجزء من مجتمعنا لثلاث أسباب، أولا لأنها كانت صورة جديدة علي، فمع أننا عملنا في عشوائيات إلى أنني اكتشفت درجة من العشوائية أكثر مما كنت أتصور، فربما تكون هذه الصورة جديدة عليكم أيضًا ويفيدكم التعرف عليها، وثانيًا، لأن موضوع قلة الحب والاحترام التي نتعامل به مع أولادنا من المواضيع التي أحب أن أؤكد عليها، وثالثًا، لأن برنامج "أنا ونحن" يؤثر ويغير من طبائع الأطفال، وليس فقط الصغار منهم، ولكننا بكثير من الحب والاحترام نستطيع أن نؤثر على المراهقين أيضًا، (وهذا لينك لتسجيل عمله راديو القاهرة الكبرى مع خريجي البرنامج يظهرون فيه كيف اثر البرنامج عليهم:

https://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=xaKhIqHbGK0

وهنا قالت شهرزاد: عندنا كلام كثير عن العشوائيات، فيجب أن نواجه مشاكلنا لنستطيع أن نحلها"، وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري

هناك تعليقان (2):

  1. نحن نريد ان نتعلم كيف نحب
    حيث ان فاقد الشئ لايعطيه

    ردحذف
  2. حلوه جداً جزاكي الله كل خير

    ردحذف

المتابعون