الثلاثاء، 8 مايو 2012

ثمن الوساطة غال


حضرت ذات مرة حفلا موسيقيا في القاعة الصغرى بدار الأوبرا المصرية أحياه عازف بيانو من إحدى الدول الآسيوية. أشار كتيب برنامج الحفل إلى ما يتمتع به العازف من ملكات موسيقية خاصة، فقد تلقى تدريبه في أفضل المدارس الموسيقية على مستوى العالم، ونال جوائز عالمية قيمة، أما برنامج الحفل فقد شمل مقطوعات موسيقى كلاسيكية محببة للكثير، فكان ينبغي أن تجذب جمهورًا كبيرًا، غير أنه، بخلاف بضعة أشخاص حضروا من سفارة بلد العازف ليؤازروه، لم يكن هناك سوى خمسة عشر أو عشرين مصريا في القاعة كلها. قلت لصديقتي مازحة "نحن هنا أشخاص بارزون، كل منا يمثل مليونا من سكان القاهرة". ونظر رئيس الوفد الآسيوي باشمئزاز إلى الحضور القليل بالقاعة .

وبعد ذلك بفترة ليست ببعيدة، حضرت حفلا موسيقيًا في نفس القاعة الصغرى بدار الأوبرا المصرية، ولكن هذه المرة كان مقدمو الحفل هم فريق مصري مكون من زوج، وهو من عائلة موسيقية مشهورة، ومعه زوجته. أشار الكتيب الذي ينوه عن برنامج الحفل إلى أنهما يُدرسان في معهد موسيقى وأنهما درسا في أوروبا، ولكن لم يشر الكتيب إلى أنهما حصلا على جوائز عالمية مرموقة أو تقدير عالمي، أشار فقط إلى أنهما نالا استحسانا من قبل الصحف الأوروبية! نعم استحسانا من قبل الصحف! هكذا وصفهم كتيب الحفل!

عزفت الزوجة وكأنها طالبة مبتدئة ممن يقرءون النوتة الموسيقية عن قرب. وبعد أن تشاور الزوج مع زوجته أعلنا أنهما لن يعزفا مقطوعة شوستاكوفيتش (ربما لصعوبتها). نظرت حولي فوجدت القاعة مكتظة بالحضور. وعندما انتهى الفريق من العزف غمرهما الحضور بالتصفيق الحاد ووقفوا إعجابا بعزفهما، وكللتهما فتاتان بباقتين من الورود.

صُعقت!! هل أصبحنا لا نستطيع أن نفرق بين الموسيقي الجيدة والموسيقي الركيكة؟ نظرت مرة أخرى حولي لأفهم سر ما يحدث فوجدت أن معظم الحضور شباب لا يزيد عمرهم على منتصف العشرينيات، فاتضح لي السر: إنهم طلاب الزوج والزوجة حضروا الحفل تملقا لمدرسيهم، لم يتعلموا تذوق الموسيقى الجيدة فهم لا يحضرون حفلات موسيقية يعزف فيها المبدعون مثل عازف البيانو الآسيوي، ولكنهم تعلموا وبرعوا في فن الرياء.

والآن لنرجع إلى الماضي لعقدين أو ثلاثة مضت، ونتصور ما حدث عندما تم اتخاذ قرارات بتعيين وترقية هؤلاء الموسيقيين. ربما كان الاختيار يستند إلى المنطق السائد: "هو أو هي ليسوا أفضل المتقدمين، ولكن لأسباب ما (أعرف عمه، أو فلان وصى عليه، أو، أو) سنعطيه الفرصة (أي نفضله على من يستحقها، ونضحك على ضميرنا ونقول لأنفسنا أننا نقوم بعمل إنساني-أي نعطي فرصة- وفي الحقيقة نحن نقوم بعمل غير أخلاقي، لأننا نمنع الشخص الكفء من العمل الذي يستحقه).

مشكلة المحاباة والوساطة ليست فقط في الموسيقى ولكنها في كل المجالات: الطب والهندسة والفن، والأمن، ويمارسها الكل، والكل يجد العذر في ممارستها. نتج عن ذلك العمل المضر للبلد أننا في السنين الأخيرة، وبطريقة منظمة، قد استبعدنا كثيرًا من الكفاءات، وساعدنا على انتشار عدم الكفاءة في جميع المجالات، ليس فقط لأننا حابينا من لا يستحقون ذلك، ولكن لأن من حابيناهم عندما تواجدوا في أماكن نفوذ أبعدوا الكفاءات عن هذه الأماكن: في الطب، والهندسة، وحتى الفن مثل السينما.

والآن ندفع ضريبة باهظة لهذه المحاباة وندفعها في أماكن عديدة. ففي الماضي كانت شهادات جامعاتنا محترمة ومعترفا بها، والآن باتت بعضها لا يعترف به، كنا من رواد الفن، وتراجعنا إلى الخلف، وتراجعنا في العلم، وفي كل شيء.

وهنا قالت شهرزاد: "كلنا ندفع ثمن مشاركتنا في الوساطة، وسكوتنا عليها" وسكتت عن الكلام المباح.

د/سهير الدفراوي المصري

هناك 3 تعليقات:

  1. كلنا بالفعل ندفع الثمن
    لكن؛ لا محالة أننا سوف نستعيد قدراتنا فى كل شىء
    بعد أن نضع أيادينا على سبب هذه المشكلات، وبمزيد من التوعية والتثقيف والإرتقاء بالذوق العام واحترام حقوق الإنسان وغيرها، سوف تصبح مصر قائدة - رائدة -هادية.

    فلنرفع كلنا رؤوسنا عالياً فنحن مصريون

    ردحذف
  2. كلام تشخيصي عميق لا يكتفي بالبكاء علي الأطلال و لكن يشخصلماذا أصبحت الديار العامرة أطلال عملت شير علي فيس بوك
    د.طارق علي حسن

    ردحذف
  3. كلما قرأت مدونة للدكتورة سهير اقول في نفسي ليتني اتعلم منها شئ يستقر في نفسي و استطيع ان انقلة الي غيري بنفس الرقي و البساطة التي تعرض بها افكارها

    ردحذف

المتابعون