الخميس، 7 فبراير 2013

خطاب خاص في وقت صعب


عندما بدأت اكتب هذه المدونة كان هدفي أن اكمل مشواري مع خريجي برنامج "أنا ونحن"، واتواصل معهم بالأفكار التي لم يسع الوقت أن أقدمها لهم في البرنامج، فدونتها هنا.

تغير هدفي الأساسي بعض الشيء فبدلا من تركيزي على خريجي برنامج "أنا ونحن"، وسعيي أن يشاركونني في خبراتي من مهارات حياتية، وجدت نفسي أُدخل في قائمة من نرسل لهم المدونة أسماء شباب من غير الخريجين، وادخلت كل من أجده يهتم بأمر مصر، وبدلاً من أن أجعل مواضيع المدونة تتصل فقط بالمهارات الحياتية، أوسعت أفقها وجعلتها تهتم بكل ما يساعد مصر على التقدم، وبالأخص العوامل الثقافية لأنني اعتقد أن دور الثقافة محوري في تقدم الأمم.

ولكني حافظت على مسافة بيني وبين ما يحدث من حولي من أحداث سياسية، ومنعت نفسي من الانزلاق إلى متاهات السياسة والدين، لأنهما في رأيي سيكونا سبب شقاق، وسيبعداني عن أهدافي الأساسية، وهي خلق جيل ذي اخلاق يساعد على بناء مصر.

وساعدني في هذا الاتجاه الجديد العمل الذي تقوم به مؤسستنا "مؤسسة الثقافة والتعليم للطفل والعائلة" في عشر محافظات، وفي مجتمعات مختلفة بدءً من أسوء العشوائيات في مصر إلى المدارس الخاصة في ضواحي القاهرة. وأنا، كعالمة اجد لذة كبيرة في الملاحظة، والمقارنة، والاستنتاج، ووضع الافتراضات، ودراستها، وإثبات صحتها فكانت المادة الناتجة من عمل المؤسسة هي من أكثر أسباب سعادتي. 

جاءت الثورة في يناير 2011، وتوالت الأحداث المختلفة، ونزلنا إلى الميدان، ووقفنا في طوابير الاستفتاء، والانتخابات. أذكر أن في الاستفتاء الأول كانت تقف أمامي شابة مسيحية تلبس في عنقها الصليب، وخلفي سيدة منتقبة. كنت سعيدة باختلافنا، وسعيدة بأننا نسعى في طرق مختلفة للتقدم ببلدنا.

والآن تمر مصر بمرحلة صعبة. وفي هذه الحالة أجد صعوبة في أن احافظ على مسافة بيني وبين ما يحدث من حولي، وأن احاول، كما كنت اعمل من قبل، ألا احيد عن موضوعيتي. لا استطيع في الوقت الذي أرى مصر تنحضر فيه إلى الهاوية أن اتكلم في أسباب تقدم الأمم.

مصر تغيرت. 

أقول لزملائي واصدقائي الذين تركوا مصر منذ عشرات السنين، والذين تركتهم في المهجر لأعود إلى مصر، وأقول لكم أنتم يامن تعيشون في مصر ولا تعرفونها، اقول واعيد القول عليكم: مصر تغيرت، ونحن جميعًا لا نعرف إلى أي مدى تغيرت؟؟! 

إن عملي في المؤسسة اعطاني صورة كانت في الأول غير واضحة المعالم عن مدى العنف واللا أخلاق في مصر اليوم، فكنت اشك أننا لا نعرف مدى خطورة حالة مصر، ولكن في الأشهر الماضية بعد أن رأيت عن قرب نوع غريب من عشوائيات مصر تقبع في قلب القاهرة وبعد أن تشجع من نسميهم البلطجية وخرجوا إلى المظاهرات، واثبتوا أنهم عنصرًا لا يستهان به في مجتمعنا وضحت الصورة في ذهني واقتنعت أنه قد حان الوقت أن ننظر إلى الحقيقة في وجهها وأن نبدأ في إصلاح ما تقاعسنا عن إصلاحه في السنوات الماضية. 

البلطجي هو مصري، مثلي ومثلك تمامًا، ولد وتربى وتعلم في بيئة جعلته كذلك. والزوج الذي يبعث زوجته لتعمل في المنازل ويضربها ليأخذ منها ثمن البرشام أو المزاج، وبعد أن تلد له ثماني أولاد يتزوج عليها زوجة صغيرة فتلد له ثلاث أولاد آخرين، والزوجتان تعملان لتصرفا عليه وعلى البيت والأولاد، هذا الزوج هو مصري، مثلي ومثلك تمامًا، ولد وتربى وتعلم في بيئة جعلته كذلك. وفرد الأمن الذي ينفذ الأوامر دون أن يفكر، ويسحل أخيه المصري ويضربه بوحشية هو مصري، مثلي ومثلك تمامًا، ولد وتربى وتعلم في بيئة جعلته كذلك. والزوجة التي تتنافس مع سلفتها في عدد الأولاد التي تلدها هي أيضًا مصرية، مثلي ومثلك تمامًا، ولدت وتربت وتعلمت في بيئة جعلتها كذلك. والسيدة الفقيرة التي تبيع صوتها في مقابل زجاجة زيت وكيلو سكر هي مصرية، مثلي ومثلك تمامًا، ولدت وتربت وتعلمت في بيئة جعلتها كذلك. 

لا ننس أن هناك 1100 منطقة عشوائية في مصر تكتظ بالبلطجية، وبمن يتزاوجون دون حساب، ويتوالدون دون حساب، وبمن يبيعون أصواتهم في الانتخابات، بعضهم لفقرهم، ووالبعض الآخر لضياع عزة النفس والكرامة، وآخرون لعدم اهتمامهم أو لأنهم قد انخدعوا بإسم الدين. ونحن نعرف جيدًا أن أخلاقيات وثقافة العشوائيات قد تسربت إلى عموم السكان، وبعض ما نسميه فن ما هو إلا قناة لتسريب هذه الثقافة، فليس كل ما يسمى فن هو بالفن الحقيقي. 

يجب أن نفوق من غفوتنا! 

لن تقوم لمصر قائمة إلا إذا نظمنا النسل، ونظمناه بحزم، وبدأنا في الحال. لقد فاتنا الوقت ونحن نردد: "كل طفل يأتي ورزقه معه"، وكان يجب أن نقول: "اعقلها وتوكل"، فنعرف أن امكانيات مصر من ماء، وهواء، وغذاء لن تتحمل التوالد غير المنظم الذي نعيشه. والآن لقد غادر القطار المحطة وعلينا أن نجرى وننهج للحاق به قبل الكارثة، ومع ذلك، فالكل خائف من التصدي للمشكلة الكبرى، مشكلة تنظيم النسل، فنعود ونتباطئ في اللحاق بالقطار.

هل تنظيم النسل هي كل مشاكلنا؟ 

لا طبعًا، ولكننا لن نستطيع أن نتغلب على الأمية والفقر والمخدرات والبلطجة وانعدام الأخلاق بدون التصدي لمشكلة التكاثر السكاني العشوائي، هذا التكاثر يتغلب على كل مجهودات الدولة لمحو الأمية ومكافحة الفقر والمخدرات إلخ.. وكما قال المثل نحن ننفخ في قربة مقطوعة.

حتى لا انهي هذا الخطاب على نوتة حزينة، ولأنني مكافحة واسعى دائمًا للتفائل فسأقص عليكم قصة جميلة هي من نوع القصص التي تجعلني اكافح وتعطيني أمل في التغيير: 

نقدم برنامج "أنا ونحن" في مدرسة في منطقة عشوائية "صعبة جدًا، جدًا" في وسط القاهرة: المدرس يدخل الفصل ومعه عصاه في مؤخرتها مسمار! والمدرسين والمدرسات يستعملون أبذأ الشتائم بينهم، ومن الممكن أن يتداعبوا بتلميحات جنسية! والمخدرات متوفرة لمن يريد، وفوق كل هذا وذاك، هذه السيدة ذات الشعر "الأوكسوجين"، والتي تفخر أن زوجها في السجن في قضية مخدرات!!

هل تصورت ما أعني؟

في بدئ الفصل الدراسي عندما عرضنا على المدرسين أن نمرنهم وهم يقوموا بتقديم البرنامج كما نعمل في باقي المدارس قالوا أن البرنامج لن ينجح لأن منطقتهم أكثر من عشوائية، ومهما حاولنا اقناعهم بخبرتنا في العمل في العشوائيات لم يقتنعوا فقررنا أن نبعث مشرفاتنا ليقمن بعمل المدرسين ويقدمن البرنامج للأطفال، وقد كان.

عرض المدرسون على مشرفاتنا استعمال العصى فرفضن، ونتيجة لجهد مشرفاتنا وحبهم واحترامهم ومعاملاتهم الآدمية للأطفال، لقد تغير الأطفال بالفعل! 

تعجب المدرسون لما حدث! ووافقوا أن نمرنهم على البرنامج وسيقدموه بالفعل في نصف السنة التالي. ويوم احتفالية نهاية الجزء الأول نظف الأطفال الفصول، وزينوها، وكتبوا ورسموا قصصًا، واهدوها لمشرفاتهم، واظهروا كل مظاهر الحب والتقدير، أتذكر منها منظر طفل عمره عشر سنوات جاء لمشرفته وقبل يدها وهو يقول: "اشكرك يا مس... على كل الحاجات الحلوة إللي علمتهالي".

وهنا قالت شهرزاد: "مازالت هناك أشياء حلوة في الدنيا"، وسكتت عن الكلام المباح,

د. سهير الدفراوي المصري

هناك تعليقان (2):

  1. تسلمى يا دكتوره بجد

    ردحذف
  2. دكتورة بجانب البرنامج اللى حضرتك بتعمليه دا عايز أسئل هل العمل اللى انت بتعمليه دا تطوعى ولا بفلوس؟

    ولو عندى مجموعة من المدرسين عايز اطور من مهاراتهم عن طريق البرامج بتاعة حضرتك ايه المطلوب؟

    وايه هى نوع البرامج اللى انت بتدربي عليه المدرسين؟

    مع تحياتى أ/ محمد سعد

    ردحذف

المتابعون