الخميس، 1 أغسطس 2013

هذا فيل يا معالي وزير التربية والتعليم


وقف شخص معصوب العينين أمام فيل، وتحسس خرطومه وقال "هذا ثعبان"، ثم تحسس نابه وقال "هذا فرع شجرة"، ثم تقدم إلى أن أصبح تحت الفيل وتحسس جلده وقال "آه أنا في خيمة"، وما بين الثعبان، وفرع الشجرة، والخيمة ضاعت فرصة أن يعرف معصوب العينين مجمل الشيء الذي يتعامل معه.


أقول كلامي هذا، ورأيي أن الفيل هو مشكلة التعليم في مصر، مشكلة ذات أطراف مختلفة، ومركبة، ومتداخلة. نقف أمام كل طرف منها على حدة متناسين أن الكل واحد، وأن الحل ليس في مجموع الحلول، ولكنه في حل للمجموع، أي أننا لسنا أمام
مكونات الفيل من خرطومه، وناب، وجلد وجسم كبير، ولكننا أمام فيل كامل.


قامت وزارة التربية والتعليم بتجربة رائدة في اللامركزية في سبع محافظات، تجربة ترتكز إلى الابتعاد الحفظ والاستظهار في المذاكرة وإبدالهما بنشاطات، وإشراك أهل التلاميذ في المعادلة التعليمية، كذلك، إرتفعت بعض الشيء بمرتبات المدرسين، وهي في ذلك كله تحاول أن تتعامل مع كل طرف من مشكلة التعليم، ولكنها مازالت متناسية أن الأطراف كلها متداخلة، ومترابطة، ويجب أن تحل المشكلة ككل. فإذا نظرنا إلى أطراف المشكلة سنجد الآتي:

المناهج التعليمية لا تشجع علي التفكير أو حب الاستطلاع أو التفنن ولا تنمي مهارات الحياة (مثل النظام، واحترام الوقت والمواعيد، واحترام النفس واحترام الغير، والإخلاص في العمل، والقدرة علي العمل الجماعي) وهي مهارات يتعلمها التلميذ في المنزل والمجتمع وتنميها فيه المدرسة. ويزداد دور المدرسة في الدول النامية حيث يفتقر المنزل والمجتمع إلى مهارات الحياة، وقد أثبتت الدراسات أن مهارات الحياة مهمة، بل أساسية لتقدم أي مجتمع.

والتلاميذ مكدسون في الفصول، يذاكرون فقط للنجاح في الإمتحان، ولا يقرأون خارج المقرر المدرسي، معظمهم سلبي، لا يهتم إلا بحفظ المعلومات المقررة، والقليل ثائر على النظام المفروض عليه فيلجأ إلى العنف وأعمال البلطجة، ولكن كلهم صورة واحدة مملة، ضيقة الأفق، ترى العالم عن طريق ملخصات مبسطة، لأن كلهم تعلم نفس الكلام، من نفس الكتب.

والمدرسون يتقاضون مرتبات ضعيفة، وليس لهم رأي في اختيار الكتب التي يُدرسون منها فهذا من سلطة الوزارة التي تؤلف لهم كتب المناهج المدرسية. كثير من المدرسين يحتاج إلى التدريب حتى يصبح مدرسًا كفؤًا لتدريس مادته أو لتدريب الطلبة علي مهارات الحياة، والبعض الآخر كفء في تدريس مادته ويستنزف أموال أولياء أمور الطلبة في الدروس الخصوصية.

والمدارس: مكدسة بالتلاميذ وتفتقر إلى مستلزمات التعليم العصري (المكتبات والمعامل والكمبيوتر)، ولا تحبب التلاميذ في العلم والسعي وراء اكتسابه.

وإدارة المدرسة (الناظر) لا تختار ولا تعين المدرسين الأكفاء كذلك لا تستبعد غير الأكفاء منهم، فهذا من اختصاصالوزارة ويتطلب إجراءات بيروقراطية بطيئة. وفي نفس الوقت، بعض الإدارات تستغل البيروقراطية البطيئة فتطغي على التلاميذ وأهاليهم دون أن يردعها أحد.

وأولياء أمور الطلبة ليس لهم رأي استشاري في المدرسة، أو في المدرسين أو في مناهج الدراسة. ودورهم الأساسي أن يُسلموا التلاميذ للمدرسة وأن يدفعوا مصاريف الدروس الخصوصية.

ووزارة التربية والتعليم تدير جيشًا هائلاً من البشر وترزح تحت عبء ثقيل من البيروقراطية.

إذا تمعنا في أبعاد مشكلة التعليم نجدها مترابطة. فالتلاميذ يتّسمون بالسلبية لأن مناهج التعليم بما تتطلبه من كثرة المذاكرة والحفظ والاستظهار تربي فيهم هذه الصفة، والمدرسون أصحاب الكفاءات يلجئون لإعطاء الدروس الخصوصيةٍ لأن مرتباتهم قليلة ولأن نظام التعليم قد همش دورهم . فلماذا لا يرضون أنفسهم بالتفنن في الدروس الخصوصية وفي نفس الوقت يزيدون من دخلهم ؟ 

ولأن أبعاد مشكلة التعليم مترابطة، نجد أن الجهود التي بذلت لحلها عن طريق حل مفرداتها (مثل زيادة مرتبات المدرسين حتى يستغنوا عن اعطاء الدروس الخصوصية)، هذه الجهود لم تنجح وهذا تأكيد أن أبعاد مشكلة التعليم تعكس مشكلة جذرية، علينا أن نكتشفها أولاً حتى نجد الحل الجذري لها.

ما هي مشكلة التعليم الجذرية؟

مشكلة التعليم الجذرية لا تنحصر في مركزيته، فاللا مركزية ما هي إلا محطة في طريق الحل الجذري، ولكن المشكلة الجذرية هي عدم فصل السلطات المشرفة علي التعليم، وعدم وجود ضوابط وموازين. فالوزارة تدمج وتقوم بالثلاث وظائف الأساسية للتعليم (الإستراتيجية والتنفيذية والتقييمية): ففي الوظيفة الإستراتيجية تُعد الوزارة أهداف المناهج والامتحانات وتقوم بتحديد مؤهلات المدرسين والموظفين، وفي الوظيفة التنفيذية تحدد الكتب التي تدرس بل وتألفها أيضًا وتعين المدرسين والإداريين. وفي الوظيفة التقييمية تقيم المدرسين والإداريين والطلبة عن طريق امتحان آخر العام وبذلك هي تُقيّم عملها الذي قامت به في تعليم التلاميذ، أي تقوم بدور المحامي والقاضي في نفس الوقت!!

وقد نتسائل ما الضرر في أن تقوم الوزارة بوظائف التعليم الثلاث؟

والضرر كبير، ونتيجته، من ناحية، هو ما نراه الآن من بيروقراطية متوحشة، قليلة الحيوية، تتداخل فيها سلطات ومسئوليات الجهات المختلفة، ومن ناحية أخرى، فعندما استولت الوزارة على سلطة المدرسين التنفيذية وحقهم في اختيار الكتب التي سيدرسون منها، كان رد فعلهم الطبيعي هو إما التكاسل عن العمل أو تحويل طاقتهم إلي عمل أخر يدر عليهم سلطة وأهمية (وهو الدروس الخصوصية)، ولم تسأل الوزارة نفسها كيف سأقيم المدرسين بناء على إنجاز تلاميذهم إذا لم أعطهم الحرية في اختيار الكتب أو الأدوات التي سيستعملونها في تدريسهم؟
ما هو الحل الجذري لمشكلة التعليم؟

إذا، الحل الجذري لمشكلة التعليم هو أن تتغلب وزارة التربية والتعليم علي مركزيتها وعلى إدماج السلطات بها، وأن تؤسس نظام الضوابط وموازين، أي أن يكون لكل جهة تقوم بعمل ما جهة أخري مستقلة عنها تشرف علي هذا العمل وتُقيمه. وأقترح أن تحتفظ الوزارة بوظيفتيها الإستراتيجية والإشرافية\التقييمية وأن تجعل الوظيفة التنفيذية منفصلة عنها ومن مسئولية المحافظات. 

في هذا النظام - الذي يتسم باللا مركزية وعدم إدماج السلطات وتُقسم فيه مسؤوليات التعليم بين جهات مختلفة لكل منها صورة واضحة ومستقلة لمسئولياتها وسلطاتها، ولها حرية القيام بعملها على أحسن وجه ممكن وتحاسب بحزم إذا لم تقم به، في هذا التصور تستطيع وزارة التربية والتعليم أن توجه كل قدراتها الاستراتيجية والتقييمية للتقدم بنوعية التعليم. كما سنري فيما بعد، ففي مجموعه، سيساعد هذا النظام الوزارة علي القضاء علي أوجه مشكلة التعليم (مثل تفشي الدروس الخصوصية وأعمال العنف من الطلبة) ويدخل الحيوية في الهيئة المدرسية ويتقدم بنوعية التعليم فيصبح ملائما للتعليم في البلاد الأكثر تقدما. لذلك يعتبر حلاً جذرياً للتعليم.

الرؤية المتكاملة للحل الجذري لمشكلة التعليم .

في هذه الرؤية نرى وزارة التربية والتعليم هي المسئول الأول عن التربية والتعليم في مصر. فهي التي تُقدم استراتيجية واضحة ومتكاملة للتعليم بما فيها المناهج العامة للدراسة (ماذا سيُدرس من كل مادة في كل سنة) ومؤهلات المدرسين والإداريين والعلوم الجديدة (مثل مادة الأخلاقيات أو علوم الحياة وتنمية التفكير المنطقي والذكاء العاطفي وكيفية التفاوض). معظم هذه العلوم تُقدم في الأول كعلم اختياري في بعض المدارس حتى تتبلور صورتها فيمكن تعميمها كعلم أساسي فيما بعد. كذلك تقدم الوزارة قوائم الكتب التي توافق على التدريس منها، ولكنها لا تشترط أن تدرس المواد منكتب معينة. وبجانب دورها الاستراتيجي، تقوم الوزارة بدور إشرافي وتقييمي على العملية التعليمية في مصر، فتقيم المدارس والمدرسين، وترصد تقدمهم وتقيمهم بطريقة مباشرة عن طريق عملهم، وعن طريق تقدم تلاميذهم، وعن طريق دورات التدريب التي يحضرونها.

وفي هذه الرؤيا يكون المحافظ مسئولاً عن حال التربية والتعليم في محافظته. يعمل مع الوزارة في بلورة استراتيجية التعليم. وهو مسئول أمام الوزارة في تنفيذ هذه الإستراتيجية. يرأس هيئة التربية والتعليم في المحافظة، والهيئة تساعده في ترجمة استراتيجية التعليم والإشراف على تنفيذها في المدارس. ولهذه الهيئة سلطات تنفيذية، فهيَ تُقيم المدرسين والإداريين وتعينهم وتنقلهم وتنهي خدمتهم، ويكون تَقييم المدرسين بناء على أداء تلاميذهم في الامتحانات العامة وأيضًا بناء على امتحانات تعطيها لهم الوزارة.

هكذا نري أن تقسيم سلطة الوزارة التنفيذية إلي 29 سلطة تنفيذية في المحافظات سيتقدم بإدارة التعليم لأنه سينتقص من البيروقراطية ويُقرب المسافة بين أعلى وأول نقطة في السلم التنفيذي. ويُحد من كثير من أوجه مشكلة التعليم التي تفاقمت في النظام البيروقراطي المعقد لصعوبة الحصول علي جزاء رادع لها (مثل التغلب علي بلطجة الطلبة وجبروت بعض الإداريين في المدارس- الناظرة التي ضربت ولي أمر طالب بالحذاء)، وكذلك التغلب على إهمال بعض المدرسين لواجباتهم المدرسية أو إعطاء الدروس الخصوصية.

ينتخب أولياء أمور الطلبة سنويا مجلساً يمثلهم ويجلس فيه الناظر ممثلا عن إدارة المدرسة، ولكنه لا يرأس المجلس. ويقوم المجلس بدور الصلة بين أولياء أمور الطلبة وإدارة المدرسة وله صفة استشارية تجاه إدارة المدرسة وأيضًا تجاه الإدارة التنفيذية للتربية والتعليم في المحافظة. يقدم تقريره للمدرسة ولهيئة التربية والتعليم مثلاً مرتين في السنة. ويكون نتيجة عمل المجلس ووصول صوت أولياء أمور الطلبة لهيئة التربية والتعليم أن يكون لأولياء أمور الطلبة صوتًا فعالاً في أمور أولادهم. وهذا مستحب، فمن سيهتم بتعليم الطلبة أكثر من أولياء أمورهم؟ كذلك، تواجد المجلس ومفعولية أولياء أمور الطلبة في أمر المدرسة والمدرسين سيُحد من استغلال هؤلاء لسلطاتهم. وقد نتسائل: هل يمكن أن ينتج عن هذا الوضع أن يستغل أولياء أمور الطلبة نفوذهم الجديد؟ هذا لن يحدث للإشراف الذي تقوم به هيئة التربية والتعليم على المدارس. وهذا جمال نظام الضوابط والموازين، أي يكون لكل جهة تقوم بعمل ما جهة أخري مستقلة عنها تشرف علي عملها وتُقيمه. ومن المعروف أن تواجد هذا النظام في أي جهة يُحد من الفساد فيها.

والمدرس هو الركن الأساسي في التعليم. ُيمرن وُيمتحن حتى يقوم بواجبه أحسن قيام. فإن لم يستجب للعلم والتمرين فلا مفر من إبعاده عن التدريس . يجب أن تزداد مرتبات المدرسين وفي مقابل ذلك يُمنعوا منعاً باتاً من إعطاء الدروس الخصوصية. كذلك يجب أن تزداد سلطة المدرسين التنفيذية مثل إعطائهم حق اختيار الكتب التي يستعملونها في التدريس (من قائمة تكون قد وافقت عليها الوزارة). وهذا النظام- ربط السلطة بالمسؤولية أي إعطاء السلطة وحرية الاختيار عند إعطاء المسؤولية- معروف في علم الإدارة وقد اثبت مفعوله في حث الموظفين على أداء عملهم على أحسن وجه. ومن المقترح بدئ نظام تكليف للمدرسين حيث يُمرن الخريج صغير السن، المليء بالحماس، يُمرن في التدريس لمدة 6 أسابيع، ويصبح مدرسًا مساعدًا، فيدخل حماسًا وحيوية في مدرسته، ويقيم مثله مثل المدرسين الآخرين بناء على مدى تقدم تلاميذه في الدراسة وفي الامتحانات.

تستطيع وزارة التربية والتعليم- بعد أن أعطت وظيفتها التنفيذية للمحافظات - أن تكرس الكثير من الجهد في وظيفتها التقييمية وأن تتفنن في هذه الوظيفة فتُكون امتحاناتها لمعرفة قدرة التلميذ علي الفهم وحل المسائل لا علي الحفظ . وإذا أردنا أن يقوم النظام بعمله على أحسن وجه فيجب أن تعطي الوزارة أهمية كبيرة للامتحانات العامة للطلبة في كل السنين وأن تضمن نزاهة هذه الامتحانات. لا أريد أن أكثر في الكتابة في موضوع الامتحانات وكيفية التقدم بنوعية التعليم فهذا موضوع طويل وسيقدم في وقت آخر. يكفي أن أؤكد أن الوزارة عن طريق اهتمامها بوظيفتها الإشرافية/التقييمية وحصولها علي الإحصائيات التي تدل على حال التعليم في المدارس والمحافظات وإشرافها العام على عمل هيئات التربية والتعليم في المحافظات ستستطيع أن تتقدم كثيرا بنوعية التعليم. 

وهنا قالت شهرزاد: "في مجموعه هذا النظام الذي يرسخ اللا مركزية، والذي يحتفظ لوزارة التربية والتعليم بوظيفتها الإشرافية/التقييمية وينقل الوظيفة التنفيذية للمحافظات، ويعطي المدرسين السلطة ويحاسبهم عما أنجزوه بهذه السلطة، ويفصل السلطات المشرفة على التعليم، ويؤسس نظام ضوابط وموازين، هذا النظام سيحل مشاكل التعليم الجذرية، ويتقدم بالتعليم في مصر"، وسكتت عن الكلام المباح. 

د. سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون