الاثنين، 27 مايو 2013

الهند و"تقريبًا" مصر


منذ بضعة سنوات قرأت كتابًا عنوانه "الهند بدون قيود" India Unbound للكاتب Gurchuran Das جورشران داص، وفيه يقص قصة تحول الهند من الاشتراكية إلى الرأسمالية وتحرير الاقتصاد وكيف كانت انتاجية الهند ضعيفة والفساد متفشيًا في عهد الاشتراكية. وعندما قُتل رئيس الوزراء راجيف غاندي عام1991 اختار الحزب الحاكم ناراسيمها راوNarasimha Rao ليُكون الوزارة الجديدة، وكان سبب اختياره أنه كان متقدمًا في السن ورأى أعضاء الحزب أنه ربما تكون هذه هي فرصته الأخيرة في تكوين وزارة، فتعاطفًا مع حاله أعطوه هذه الفرصة. فأبدع وعين الاقتصادي المرموق مانموهان سنج كوزير اقتصاد، وعمل على تحرير الاقتصاد الهندي، وقام بتغيرات ثورية في كل الوزارات وطلب من كل وزارة أن تقدم له في بحر أسبوع ورقة تشرح فيها أهم المشاكل التي تقابل الوزارة وكيف تقترح أن تُحل، وبجانب العمل على حل هذه المشاكل قام بالأتي:

- جعل الاقتصاد ينفتح أمام الاستثمارات الأجنبية والتجارة،

- فكك ضوابط الاستيراد،

- خفض الرسوم الجمركية،

- خفض قيمة العملة،

- ألغى إلى مدى كبير ضوابط التراخيص على الاستثمارات الخاصة،

- خفض معدلات الضرائب،

- كسر الاحتكارات في القطاع العام،

فكانت هذه هي الثورة الاقتصادية التي يقال أنها سبب من أسباب دفع الهند إلى الأمام.

أجد نفسي أتسائل: "لقد كانت مصر في منتصف القرن الماضي مثل الهند، فماذا حدث؟ كيف تقدمت الهند، أو كيف تأخرت مصر؟ وهل الثورة الاقتصادية وتحرير الاقتصاد هما فقط أسباب تقدم الهند أم هناك أسباب أخرى مساعدة؟ وإذا كان الحال كذلك، فما هي هذه الأسباب؟ وهل نفس هذه الأسباب قد تساعد على تقدم مصر؟"

يقال أن السبب الرئيسي لتقدم الهند أنها عاشت أكثر من خمسين سنة حياة ديمقراطية، في الوقت الذي عاشت مصر تحت نظم أوتوقراطية، ولم تتميز انتخاباتها بالنزاهة. مرة أخرى نتسائل: "هل الديمقراطية مع الثورة الاقتصادية هما السببان الوحيدان لتقدم الهند، أم هناك عوامل مساعدة أخرى؟"

مما لا شك فيه أن تقدم الأمم من المسائل المركبة التي تتفاعل فيها عوامل كثيرة، ولكي نحاول أن نفهم طبيعة هذه العوامل في تقدم أو عدم تقدم الأمم علينا أن نُشرحها ونحللها:

فهناك في مصر والهند عوامل متشابهة: في كل من الهند ومصر حضارات ذات تاريخ قديم، ونجد الآن أن الفقر والفساد والأمية إلى حد ما متفشيين في كل من البلدين، ولكن هناك عوامل تختلف كثيرًا بين البلدين، فالهند موزايك من الكثير من الديانات واللغات المختلفة، ومصر مقارنة بالهند أكثر تجانسًا من ناحية الدين والعرق.

فنتسائل: "هل في الاختلاف في الدين واللغات فائدة أم ضرر للهند؟"

من الملاحظ أن الاختلاف والتعددية إذا لم يزيدا عن حدهما وحافظا على نظام وقانون المجتمع يكونا من أسباب حيويته وبالتالي من أسباب نجاحه، وهذا ما نراه في الهند فثقافة الهند بطبيعتها ثقافة تتسم بالحيوية: هناك رقص وغناء حتى في المعابد، وهناك تعبد بالرقص الراقي، وهناك حب للألوان تراه في ملبس الفقير والغني، وهناك عيد الألوان، وافلام بوليوود التي تتسم بالرقص والغناء والمغامرات البسيطة، ففي حال الهند عملت التعددية في مصلحة تقدمه.

وأيضًا كل من البلدين عاشا تحت الاستعمار البريطاني، وهذا الاستعمار له مضار وفوائد، فهو قد يهز هوية الشعب المستعمر (إلى أن يثور الشعب ويطرد المستعمر)، ولكنه أيضًا يهيئ له البيئة للتقدم، فهو يغرس فيه النظام في العمل ومراعاة القانون، ويساعده على محاربة الأمية، ويعلمه اللغة الانجليزية (لغة العصر)، ويساعده على التفتح للخارج، وهي صفات يغرسها المستعمر البريطاني لأنها ذات فائدة له، ولكنها في نفس الوقت تفيد الشعب المستعمر كما رأينا من قبل في مدونة "لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى مماثلة؟ العوامل الاجتماعية )2(" إذ رأينا الاستعمار البريطاني في بربادوس قد غرس في الشعب صفات ساعدت على تقدمه أكثر من الشعوب المجاورة التي تشبهه من الناحية الجينية ومن نواحي كثيرة. كذلك، نجد أن الكثير من نمور جنوب شرق آسيا كانت في وقت ما مستعمرات بريطانية، غرس فيها المستعمر اللغة الانجليزية والنظام (الذي قد يصل إلى بيروقراطية خانقة)، والقانون قبل أن يخرج منها، وبذلك، ساعد على تقدمها.

فنتسائل: "ماذا عن الهند ومصر؟" 

ساعد الاستعمار البريطاني الهند أن يكون عندها ثالث أكبر شبكة للسكك الحديدية في العالم، وأكبر صناعة جوت، ورابع أكبر صناعة للمنسوجات القطنية، وأكبر نظام قنوات مائية في العالم، كذلك، في وقت الاستعمار البريطاني حدثت في مصر نهضات اقتصادية وثقافية وكانت مصر قبلة للفن، وهذه الأعمال كانت كلها من أعمال الشعب المستعمر، مصري أو هندي، ولكن ما ساعد على انتاجها هو المناخ العام الذي خلقه المستعمر البريطاني بدءًا من انفتاح على العالم الخارجي إلى نظام وجودة في التعليم ولغة العصر. 

وبعد فترة الاستعمار، منذ خمسينات القرن الماضي في عهد عبد الناصر ونهرو اهتمت كل من الهند ومصر بالتعليم وبعثتا البعثات إلى الغرب. عاشت الهند عهد ديمقراطية وتفتح على العالم، وحافظت على جودة التعليم فيها بل داومت على إرسال البعثات إلى الخارج، فاستطاعت أن تتغلب على فشل تجربتها في الاشتراكية، وساعدها في ذلك حيوية ثقافتها. وسافر الملايين من الشباب الهندي إلى الولايات المتحدة وانجلترا، ودرسوا هناك، ورجع بعضهم إلى الهند فأجج التقدم العلمي والاقتصادي فيها وبقي البعض الآخر فكون الجيوش من العلماء الهنود الأمريكيين الذين يتقدموا الآن بالابحاث وبالصناعة في الولايات المتحدة وانجلترا. ويقص حفيدي حسين مسعود هذه القصة: عزمته زميلة هندية في جامعة ميشيجان على احتفالية يقوم بها اتحاد الطلبة الهنود في الجامعة، فبدأ الاحتفال بعرض "سلايد شو" لأربعين شخصية ناجحة هندية ترأس شركات كبيرة في الولايات المتحدة، جيش من أربعين شخصية ناجحة مرموقة يفتخر بها الشباب الهندي في الولايات المتحدة وينظر إليها كمثل أعلى يحتذي به.

وماذا عن مصر؟

بعد عهد الاستعمار لم تعش مصر التجربة الديمقراطية الحقة، ولم يهتم النظام الأوتوقراطي بجودة التعليم أو بالمداومة على إرسال البعثات للخارج، أو بتفتحها للخارج عن طريق اللغة الانجليزية، فلم تستطع التغلب على فشل التجربة الاشتراكية، وانهار التعليم، والصحة، والفن إلخ.. 

وبعد عبد الناصر، نقصت عدد البعثات إلى الخارج ، ومع أن الجامعات ومعاهد الأبحاث، في كثير من الحالات، لا تمتلك الأجهزة التي تساعد على الأبحاث العلمية المتقدمة، وليس في إمكانها الحصول على الكثير من المجلات العلمية التي تعتبر أساسية للأبحاث العلمية الجادة، وليس في استطاعة الباحث أن يرى من هذه الأبحاث إلا ملخصات بسيطة، إلا أن مصر قد اصبحت بقدرة قادر تفرخ مئات الآلاف من الشهادات العلمية العليا، من دبلوم، إلى ماجستير، إلى دكتوراه، وكثير من هذه "شبه" الشهادات، أو الشهادات "التقريبية" لقلة إمكانيات البحث العلمي، لا توازي أخواتها من الشهادات الخارجية ولكنها شهادات أغرقت السوق المصري.

وهذا الحال يذكرني بمقال كتبه توماس فريدمان في النيويورك تايمز سنة 1995 وأسماه Almost Egypt أو "تقريبًا مصر"، وفيه يعيد قول د. سعد الدين ابراهيم "أن مصر هي البلد "التقريبي"، كل شيء فيه "تقريبي"، فهي تقريبًا بلد ديمقراطي، ولها تقريبًا سوق حرة، وتقريبًا متعددة الأحزاب، وتقريبًاعندها صحافة حرة، وتقريبًا اقتصادها مستعد أن ينطلق".

وهنا قالت شهرزاد: "عوامل كثيرة تتفاعل لتساعد على تقدم الأمم، من تاريخ طويل في الديمقراطية، إلى التفتح على الخارج واللغة الانجليزية والنظام وجودة التعليم وحيوية الثقافة، ولكن في حال مصر علينا أولاً أن نعترف أننا في حال "التقريبي"، ونتخذ القرار أن نخرج من هذا الحال إلى حال الجودة التامة، حال "بحق وحقيق"، فيكون عندنا شهادات "بحق وحقيق"، وديمقراطية "بحق وحقيق"، إلخ..، إلخ..، وكفانا مغالطة وفهلوة"، وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري
www.anawanahnoo.blogspot.com
www.facebook.com/SouheirElmasry
twitter.com/Souheir_Elmasry

هناك 3 تعليقات:

  1. دكتورة سهير
    تحياتى:

    أود أن أبدأ تعليقى باستعارة جملة من مقالك" كفانا مغالطة وفهلوة"
    فأقول من الجيد والجدير بالذكر هى دراسة أسباب تقدم الشعوب، ولكن من الأجدر أن ندرس أسباب تأخر شعبنا نحن، وأن نقدم الحلول والمقترحات، لا أن نقارن وفقط، وإلا أصبح ذلك نوع من أنواع الفهلوة( عذراً إن كنت أتحدث بهذه الطريقة، فأنا أحب مصر وأريد لها الخير والتقدم)فى كتابة المقالات، لم أرى فى مقالك سوى تركيزك على كلمة فن وغناء وموسيقى وكأنك تركزين على أقوى عنصر من عناصر تقدم الهند، وهذا غير صحيح
    فمن المعروف أن الفن مرحلة تعبيريه عن حال المجتمع تأتى بعد تحقق كل عناصر الإزدهار والتقدم فى البلاد.
    وأرى أنك تحدثتى عن أسباب تقدم الهند والتى هى من وجهة نظرك قد تكون منحصرة فى الفن والرقص والغناء (وقد لاحظت ذلك فى الكثير من مقالاتك السابقة)حتى فى المعابد، مع العلم أن مثل هذا الرقص فى المعابد الهندية يعد من الطقوس الدينية، وأرى أن تلك الطقوس يعادلها أشكال وحركات الصلاة عندنا فى مصر سواء فى الكنيسة أو فى المسجد.

    وأستعير من مقالك القطعة التى تقول "{{{من الملاحظ أن الاختلاف والتعددية إذا لم يزيدا عن حدهما وحافظا على نظام وقانون المجتمع يكونا من أسباب حيويته وبالتالي من أسباب نجاحه}}}، وهذا ما نراه في الهند فثقافة الهند بطبيعتها ثقافة تتسم بالحيوية: هناك رقص وغناء حتى في المعابد، وهناك تعبد بالرقص الراقي، وهناك حب للألوان تراه في ملبس الفقير والغني، وهناك عيد الألوان، وافلام بوليوود التي تتسم بالرقص والغناء والمغامرات البسيطة، ففي حال الهند عملت التعددية في مصلحة تقدمه.
    فأنا اتفق تماماً معك فى هذا الجزأ من المقال ولكنك لم تذكرى معيار الالتزام واحترام التعددية والاختلاف فى الرأى، مقارنة بما يحدث الآن فى مصر.

    فى انتظار مقالكم القادم الذى يجيبنى على تلك التساؤلات .

    مع فائق احترامى وتقديرى

    أ/محمد

    ردحذف
  2. حسب فهمي البسيط و تحليلي الغير عميق, أن أية مجموعة من البشر لو تركتهم في حالهم دون تدخل أو تهديد سوف يتقدمون خصوصا إذا كانوا أصحاب حضارات, دعك من الهند و أنظر كيف تفوقت البرازيل في سنوات قلائل حين انشغلت الولايات المتحدة عنها في حروب افغانستان و العراق
    اللهم إشغلهم عنا قليلا هم و إخوانهم و سلفييهم

    د علاء حسين حجاب

    ردحذف
  3. سيدي الفاضل

    عندي بعض الملاحظات على مداخلتك: أولا، لا عذر لك أن تستعمل لغة لا تنم عن الاحترام وتعتذر أن السبب في قلة الاحترام هو أنك تحب مصر، فهذا ليس عذرًا، نحن نعلم أطفال برنامج "أنا ونحن" أن من يظهر احترامًا فهو يحترم نفسه، ومن يظهر عدم احترام فهذا دليل على عدم احترامه لنفسه.

    ثانيًا، انت تقدم أفكارًا دون أن تقدم سندًا لها:

    - فلا اعرف من أين أتيت بفكرة "أنا لم أرى في مقالك سوى تركيزك على كلمة فن وغناء وموسيقى"!! بالذمة ياراجل!! لقد كتبت في المقال عن مواضيع كثيرة، كتبت عن شهاداتنا التي اصبحت شبه شهادات، والديموقراطية التي تمتعت بها الهند في الوقت الذي كنا نتمرغ في الأوتوقراطية، والأربعين هندي أمريكي الذين اصبحوا رؤساء شركات كبيرة أمريكية، وسعادتك لا ترى إلا الفن والغناء والموسيقى! ما هي المشكلة مع الفن والغناء والموسيقى؟

    - كذلك، أريد أن تدلني على دليلك أن "الفن مرحلة تعبيرية عن حال المجتمع تأتي بعد تحقق كل عناصر الازدهار والتقدم في البلاد". هذا كلام في غاية الغرابة. ألم تسمع عن الفن البدائي؟ ألم تسمع عن فن القبائل الأفريقية؟ حتى القبائل البدائية يحبون الفن، ثم من قال أن الفن مرحلة، يا بني الفن أداة تعبير ولكنه ليس وقت وبالتالي ليس مرحلة لأن المرحلة وقت. أتمنى أن نتعلم كيف نختار كلامنا بدقة.

    - وأخيرًا جملة "من المعروف أن (الفن مرحلة).." تستعمل عندما لا نستطيع أن نثبت ما نقدمه "ما هو ياخويا ده من المعروف، ما تسألنيش مين اللي قال كده"!!

    والله يساعدنا جميعًا.

    د. سهير الدفراوي المصري

    ردحذف

المتابعون