الأحد، 3 مارس 2013

لنضع أنفسنا مكان الآخر


من وقت لآخر احاضر في مراكز الشباب ومراكز الثقافة عن تربية الأبناء، ومنذ بضعة أيام حاضرت في مركز ثقافة طلعت حرب في حدائق زينهم، وهذه المرة مثل كل مرة مضت وجدت أمًا (أحيانًا اجد أكثر من أم) حضرت خصيصًا وهي منفعلة وفي عينيها الدموع، لتسأل: "ماذا اعمل في طفلي؟ عناده سيجنني!!".

لقد جلست هذه الأم طوال المحاضرة منتظرة وقت الأسئلة لتسأل هذا السؤال. وطوال جلوسها لم تسمع شيئًا مما قلت. لم تسمع أن علينا أن نتعلم كيف نضع أنفسنا مكان طفلنا بدءً من وقت ما كان الرضيع الذي خرج لتوه من رحم أمه إلى كونه المراهق الذي تتلاعب الهرمونات بأعصابه وبمزاجه. في رحم أمه، كانت كل احتياجاته ملباة: الأوكسوجين والغذاء والسوائل يأتوا إليه عن طريق الدم، والجو دافئ، وكيس السائل حواليه يحصنه، ثم خرج إلى عالمنا فكانت صدمة كبيرة: شعر بالجوع، والبرد أو الحر، وضايقته الحفاضة المبللة. فيجب أن تتعلم الأم أن تضع نفسها مكانه، وأن تشعر بما يشعر به، فإذا بكى تسرع لتؤكله، وتعوضه بالحب والثقة عما تركه في الرحم من راحة وأمان.

ولم تسمعني الأم التي تشتكي من عناد طفلها، لم تسمعني عندما شرحت حالة طفل السنتين، وكيف أنه بعد أن تعلم المشي واكتشاف بيئته يريد الآن أن يكتشف حدوده، فمعرفة الحدود تعطي الإحساس بالثقة وبأن الأمور منتظمة، فطفل السنتين يصمم على رأيه بنوبات غضب قوية، وعلى الأم أن تفهم دوافعه، وتعامله بحزم، ولكن بحب واحترام ونظام، ولا تخضع لابتزازه البتة، فإذا خضعت له ولو مرة واحدة تعلم أن يعاند ويثابر في العناد حتى يأخذ ما يريد، وفي نفس الوقت لا تتحداه في نوبات غضبه، ولا تعانده، فهكذا يولد العناد في الطفل، بل تتعلم أن تضع نفسها مكانه فتعرف افكاره ومشاعره، وتعرف أنه يحاول أن يعرف حدوده، وعليها أن تعرفه إياها بهدوء. ولكن هذه الأم تنتظر مني خلطة سحرية تمسح بها العناد من طفلها، فتصدم عندما أقول لها: " العناد لا يولد مع الطفل. نحن من نربي العناد في أطفالنا".

لم تسمعني وأنا احاضر، ولو كانت سمعتني لوجدت حلاً لمشكلتها، ففي الأساس مشكلتها أنها لا تعرف كيف تضع نفسها مكان طفلها لتحاول أن تعرف كيف يفكر. لقد تعودت أن تتعامل بالقوة مع المشكلات، ولكن للقوة حدود فوصلت لحدود قوتها وفشلت.

منذ بضعة شهور في محاضرة في مركز شباب الصفا في الجيزة، وجدت أمًا في حالة شبه هستيرية: تريد من ابنها ذات الثماني سنوات أن يهتم بالدراسة، وهو يحب مشاهدة التلفزيون ولعب الكمبيوتر والذهاب إلى النادي، فمنعته من التلفزيون ليذاكر، لم يهتم، فزادت من منعها ومنعته من الكمبيوتر ليذاكر، فلم يهتم، فزادت من منعها ومنعته من النادي ليذاكر، فلم يهتم، ولم يهتم بدراسته، فاصبحت تبكي في حالة شبه هستيرية. لقد استنفزت كل اسلحتها وفشلت.

لقد رأيت عن قرب الحالة الهستيرية عند الأمهات التي يعتقدن أن أولادهن يعاندهن، ولا يفهمن أنهن بعنادهن خلقن العناد في أولادهن.

رجعت إلى منزلي بعد محاضرة مركز ثقافة طلعت حرب، وقرأت في جريدة اليوم وصف جريمة بشعة قتلت فيها أم طفلها الذي يبلغ العشر سنوات. لم تكتف بخنقه، بل انهالت عليه بالسكين بشراسة، وبعد أن أجهزت عليه التفتت إلى ابنتها فقتلتها هي أيضًا لأنها شاهدة على جريمتها. مما لا شك فيه أنها كانت في حالة جنون أقوى من الحالات التي أراها ولكن من الواضح أنها قامت بجريمتها لأنها شعرت أنها قد استنزفت كل اسلحتها وفشلت.

وبعد أن قرأت جرائدي التفت إلى ملفي الإلكتروني حيث احتفظ بمقالات اكون قد قرأتها في وقت ما واعتبرتها مقالات مهمة. قرأت مقالة عنوانها How to Fix a Fanatic للكاتب Alan Johnson في مدونته Idealism Without Illusionوفيها يقدم فكرته أن سبب مشكلة العنف في اسرائيل وفلسطين أن الاسرئيليين والفلسطينيين لا يضعون أنفسهم مكان الآخر، وأن عليهم أن يتعلموا أن يضعوا أنفسهم مكان الآخر ليستطيعوا أن يتغلبوا على العنف.

تذكرت قصة وردت في الإعلام أيام الانتخابات الأخيرة: سيدة تسأل منتقبة تقف في طابور الانتخابات: "ما هو رمز حزب الحرية والعدالة"، فتقول لها المنتقبة على رمز حزب النور. فتتدخل الصحفية وتسأل السيدة المنتقبة: "لماذا غالطتيها؟"، فترد المنتقبة: "الانتخابات مثل الحرب، من المسموح فيها أن نغالط"!!

كنت قد نسقت هذه المعلومة في ذهني في ملف فصل الدين عن السياسة، الذي اضع فيه الحجج التي ارفض بها العمل السياسي للهيئات الدينية، ففي اعتقادي أن العمل بالسياسة فيه تدني للدين، يفيد من يتمحك بالدين لمصلحته الشخصية، ولكنه يضر الدين ذاته، ولكنني الآن استحضر هذه المعلومة لأهمية فكرة أن نضع أنفسنا مكان الآخر. إذا كانت المنتقبة قد تعودت أن تضع نفسها مكان الآخر، هل كانت قد غالطت السيدة التي تسألها عن رمز حزب الحرية والعدالة؟ هل إذا عرف المجرم أنه سيكون في الطرف الآخر من الجريمة، أي أنه سيكون الضحية بدلاً من الجاني هل كان قد قام بجريمته؟ لماذا لا نضع أنفسنا مكان الآخر؟ هل من الصعب أن نتخيل أنفسنا مكان الآخر؟ وماذا يتطلب منا هذا التخيل؟ أنا لا اتكلم عن حالة الجنون التي وصلت إليها الأم التي قتلت ولديها. مما لا شك فيه أنها قبل هذا الحادث مرت بحالات كثيرة عاندت فيها ولديها وحاولت أن تفرض عليهم رأيها بالقوة، فساعدت على ترعرع العناد فيهما قبل أن تصل إلى الجنون في نهاية المطاف. 

شعرت أن في تزامن قصة الأم التي سألتني في نهاية المحاضرة، وبعدها بساعتين فقط أقرأ قصة الأم التي قتلت ولديها، وبعدها مباشرة أقرأ قصة مدونة ألن جونسن، شعرت أن هناك رسالة قوية لي. رسالة تقول لي: "انظري إلى ما يحدث عندما لا نضع أنفسنا مكان الآخر. هذا موضوع مهم، علينا جميعًا أن نهتم به، فاكتبي في هذا الموضوع".

وهنا قالت شهرزاد: "مما لا شك فيه أن هناك فائدة تأتي للآخر عندما نضع أنفسنا مكانه، ولكن مالا يجب أن نغفله أن هناك فائدة أكبر تأتي لنا أيضًا عندما نتعلم كيف نضع أنفسنا مكان الآخر"، وسكتت عن الكلام المباح. 


د. سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون