الاثنين، 18 فبراير 2013

قابلت صديقة قديمة


قابلتها في مطار فيينا وأنا في طريقي إلى القاهرة. صديقة قديمة لم أكن قد رأيتها منذ أكثر من خمس سنوات، وأعرف أنها تتخصص في ترميم الآثار المصرية.

سألتها عن عملها، فوصفت لي مشروع ترميم وتغيير عشوائيات في وسط القاهرة تقوم به. قالت أن بعد أن يرمموا المساكن في هذه العشوائيات، ويدخلوا فيها الصرف الصحي، والماء العذب يهتموا بالارتفاع بالمستوى الإنساني للأطفال فيهم، فيعلموهم كيف يعبرون عن أنفسهم بالرسم!

سألتها: "هل ما يحتاجه أولاد العشوائيات أن يتعلموا كيف يعبرون عن أنفسهم بالرسم؟" وافقتني أن هذا سؤال مهم لأن ليس هناك دليل على أن هناك فائدة تأتي من تعليم أطفال العشوائيات التعبير بالرسم والموسيقى ولكن كثير من الجمعيات يعلمون هذا لأطفال العشوائيات. 

ما السبب؟ لماذا الاهتمام بتعليم أولاد العشوائيات التعبير بالرسم والموسيقى؟

ربما يكون السبب إن هذا شيء يسهل تقييمه، فمن السهل أن تضع جمعية تعمل في العشوائيات هدفًا لعملها أن تعلم الأطفال التعبير عن أنفسهم بالرسم أو بالموسيقي، وبما أن الأطفال يحبون هذا التعليم فلن يهربوا منه كما يهربون من التعليم المعتاد، وبذلك تنجح الجمعية في الوصول إلى هدفها السهل. وربما يصعب على الجمعية أن تهدف لأن تغير من طبائع الأطفال التي تساعدهم أن يبقوا عشوائيين، أي أنها في الأصل تستسهل.

وربما هناك سبب آخر أن الهيئات الأمريكية والأوروبية تهتم بتعليم الأطفال التعبير بالرسم والموسيقي، ولأنهم في حياتهم يؤكدون على النظام، فقليل من التفنن أو حتى العشوائية فوق هذا الأساس العميق من النظام يكون مطلوبًا لأنه يكسر من حدة النظام، ولكن نحن غارقين في قلة النظام وفي العشوائية، فهل يعقل أن نضع تفنن وتعبير بالفن والموسيقى فوق كل هذه العشوائية؟

قلت لصديقتى ضاحكة هم يلبسون جزم البوت ليستطيعوا السير في الثلج الذي قد يصل إلى الركب، ونحن نقلدهم دون مراعاة لظروفنا فنلبس البوت في حر أغسطس.

وبخلفيتى العلمية التحليلية بدأت أسأل: ماهي العشوائية؟

العشوائية هي حواري ضيقة، ومساكن في غاية الفقر، تنقصها أساسيات، ويسكنها فقراء تتفشى فيهم الأمية وربما المخدرات والإجرام. ويقال أيضًا أن العشوائية هي ضياع الثقافة والاعتزاز بالنفس.

وإذا تمعنا في تحليل طابع العشوائية نجدها في الأفراد قبل أن تكون في مسكنهم، فالفرد العشوائي الذي لم يواظب على تعليمه ولم يستمر في عمل، ويفضل الكسل وقلة النظام يبقى فقيرًا ويضطر أن يعيش في العشوائيات. لذا فعلاج العشوائيات يجب أن يبدأ بالفرد.

في النظام السابق اهتمت السيدة سوزان مبارك بالعشوائيات عن طريق هدم العشش وبناء مكانها العمارات الأسمنتية، دون الملاحظة أن السكان لم يتغيروا، فهم ما زالوا عشوائيين، وما تغير هو فقط مبانيهم.

فلأن العشوائية أصبحت مشكلة عويصة في مصر، يحق لنا أن نتسائل: كيف نتغلب على العشوائية في الأفراد؟

احيلكم لمثلين ناجحين: أول مثل هو ما قدمته في مدونة "قصة جميلة من فنزويلا"، وشرحت فيه كيف أن د. إبرو الأستاذ الجامعي رأى أن العشوائية هي طبيعة لا تحترم النظام، ولا تعرف المواظبة على العمل، وتمل بسهولة، فعلم أطفال العشوائيات الموسيقى الكلاسيكية وجعلهم يلعبونها لساعات طويلة ليتقنوها فتعلموا الصبر والمثابرة والنظام، وكون منهم أوركسترات السيستما، وعندما لعبوا أمام الجمهور زاد اعتزازهم بأنفسهم، وبدأت البلاد الأخرى تستورد نظام السيستما، مثل أمريكا اللاتينية واسبانيا، ونيويورك سيتي، كذلك، قررت اسكتلندا استيراد نظام السيستما لكسر سلسلة الفقر في بعض مناطقها. وقيل إن كل دولار يصرف على السيستما يقابله 1.68 دولار فائدة تأتي للمجتمع من ورائه.

والمثال الثاني هو برنامج "أنا ونحن" الذي تقدمه مؤسسة الثقافة والتعليم للطفل والعائلة في المدارس ومراكز الشباب وفي مناطق عشوائية مثل حدائق زينهم وعزبة الوالدة. فكرة البرنامج الأساسية في محاربة العشوائية هي: عن طريق تكوين، على مدى سنتين، علاقة ثقة بين الطفل وكتابه صديقه الذي يقص عليه القصص، ويقوم بالنشاطات المسلية معه، يتعلم الطفل ويطبق ما تعلمه، فيعمل بنظام، ويُكون أهدافًا لعمله، ويتعلم أهمية أن يحترم نفسه ويحترم الآخرين، وأن يكون صادقًا مع نفسه، كذلك يتعلم ويطبق مهارات حياتية مختلفة، ويعرف أهمية إختلافنا وكيف نستفاد منه، ويعرف صفات المجتمع السوي بدءًا من الحفاظ على البيئة إلى فصل السلطات، وسيادة القانون. نتيجة لهذه النشاطات والتطبيقات يخرج طفل جديد من الشرنقة، طفل يعمل بنظام وبأهداف وثقة واعتزاز بالنفس. ولقد وثقت المؤسسة بالصوت والصورة نجاح البرنامج الذي بدأ منذ حوالي عشر سنوات.

وهنا قالت شهرزاد: "لقد تأخرنا في معالجة موضوع العشوائيات، حتى ساءت حالتهم، وأصبح عندنا الآن في العشوائيات أكثر من جيلين لم يروا إلا حياة العشوائيات، وسيصعب معالجة الحالة لأنها وصلت إلى هذا المستوى. أرجو أن نسرع بمعالجة الناحية الانسانية لهذه المشكلة". وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون