الأربعاء، 15 يناير 2014

ما الحل يا بلدي؟-2


في المدونة السابقة قدمنا قصة انفتاح الهند كمثل لتقدم البلاد النامية مثل مصر، وكيف أنه بعد حوالي عشرين سنة من نمو عالي المستوي تراجع مستوى النمو إلى النصف. فجاءت الأسئلة الكثيرة تحاول أن تعرف سبب هذا التراجع وتقدم النظريات لذلك، وفيما يلي أقدم أفكار إثنين من علماء الاقتصاد المرموقين دوليًا وهما جاجديش باجواطي، وأمارتيا سن لإن رؤية كل منهما لما يحدث في الهند على النقيض من رؤية الآخر، وهناك فائدة في
اختلاف وجهات النظر. 

باجواطي أستاذ اقتصاد في جامعة كولومبيا، ولاية نيويورك، ومن محبذي الاقتصاد الحر المنفتح، ويدعي أنه هو من حث مانموهان سنج على ما قام به من تحول عن الاشتراكية وانفتاح اقتصادي. وفي كتابه الأخير ”Why Growth Matters: How Economic Growth in India Reduced Poverty and the Lessons for Other Developing Countries, by Jagdish Bhagwati and Arvind Panagariya” نجده مازال يعتنق نفس الأفكار بل ويزيد عليها فهو الآن يريد ألا يُحاسب موظفو الحكومة بنظام الوظيفة (يأخذ الموظف ماهية كل شهر) بل بنظام المشروع (يأخذ ماهية إذا كان هناك احتياج له، أي هناك مشروع)، ولا يرى أن المشاكل التي تعاني منها الهند الآن (فقر مدقع في وجود ثراء فاحش، تعليم سيء للفقراء مع تعليم عالي الجودة للطبقات الوسطى، فساد منتشر، قوانين تناصر رجال الأعمال على السوق، إعلام يتحكم فيه رجال الأعمال) هي الآثار الجانبية للانفتاح في ظروف الهند الخاصة، بل يرى أن خلاص الهند من محنتها الحالية هو المزيد من الانفتاح ومن تحرير الاقتصاد، فهو يساند أفكار الاقتصاد المنساب من أعلى (trickle down economics) التي ترى أن التوسع في ثراء الطبقات العليا سيأتي بالخير على المجتمع كله. 

أمارتيا سن أستاذ اقتصاد وفلسفة في جامعة هارفارد. عاصر في طفولته مجاعة البنغال التي مات فيها 3 مليون هندي، فأثرت فيه هذه الحادثة الأليمة، وجعلته يهتم طول حياته بالمجاعات، وبحال البلاد النامية وينحاز للفقراء منهم. وقد حصل في عام 1998 على جائزة نوبل للاقتصاد، وكانت فكرته أن "التقدم هو الحرية" أو Development as Freedom ولأنه استاذ فلسفة بجانب الاقتصاد فهو يقدم أفكارًا فلسفية في الاقتصاد، فيقدم فكرته في مقارنة “الحق” و”القدرة”، وكيف أننا قد يكون لنا "الحق" في شيء، ولكننا لا نمتلك "القدرة" التي تجعلنا نصل إليه، وفي هذا الموضوع يتكلم عن الحرية الإيجابية والحرية السلبية، ففي الحرية الإيجابية الانسان عنده "الحق" وعنده "القدرة"، فمثلا عنده "الحق" أن ينتخب وعنده "القدرة" أو الحرية أن ينتخب من يريد، أما في الحرية السلبية فهو عنده "الحق" أن ينتخب كما يريد، ولكن فقره واحتياجه للمال يجعله لا "يقدر" أن ينتخب من يريد فينتخب من يرشوه بالمال.

لذا يؤكد دكتور سن على أهمية الناحية الاجتماعية للاقتصاد، فيرى أن تقيم البلاد بما تعطيه لأبنائها من "قدرة"، وأنه لكي يتقدم بلد اقتصاديًا يجب أن يأتي فيه الاصلاح الاجتماعي (مثل إصلاح التعليم والصحة) قبل الاصلاح الاقتصادي، وفي كتابه الأخير: An Uncertain Glory: India and its Contradictions, by Jean Dreze and Amartya Sen يحاول أن يفهم سبب توقف الهند عن التقدم السريع الذي كانت فيه، فنجده ما زال منحازًا للفقراء، ويرى أن الهند في تسرعها في النمو عندما انفتحت على أيادي مانموهان سنج قد انحازت للأثرياء فازدادوا ثراءًا، وازداد فقراؤها فقرًا. صحيح أنها اهتمت بالتعليم فأنشأت طبقة جديدة من المتعلمين الذين يعملون مقابل مهايا سخية (على سبيل المثال في مجال تكنولوجيا المعلومات) لكن تعليم الفقراء لم يتقدم، وحالة الفقراء الصحية تدهورت، كذلك، حال المزارعين، وفي السنين الماضية انتحر مئات الآلاف منهم لضيق المعيشة، وفي مجال العمل أكدت الهند على قطاع الخدمات وليس على قطاع الصناعة، ويرى سن أن الفساد المستوطن في الهند جعل الحكومات المتوالية تنحاز لرجال الأعمال على حساب الانحياز للسوق، فأُهدرت الثروات الطبيعية التي كانت تتمتع بها الهند، واصبحت أنهارها ملوثة، ونقص مستوى مياهها الجوفية، ومن الناحية الاجتماعية فالقدوة التي اصبح يقتدي بها الشباب الهندي هم ممثلو بوليوود ولاعبي الكريكت واصبح الإعلام الهندي منحازًا لرجال الاعمال. 

وعندما يكون النمو غير متوازن، أي يزداد الفرق بين الفقراء والأثرياء، كما هو الحال في الهند، هذا التوازن يولد الاضطرابات، فينتج عن ذلك أن يطالب الشعب بالقائد صاحب اليد الحديدية، ويبتعد البلد عن الديمقراطية، وهذا ما يحدث بالفعل في الهند، فنرى نارندرا مودي، محافظ ولاية جوجورات، وهو الذي كان ضليعًا في مقتل ألف مسلم، وتعتبره الولايات المتحدة مجرمًا فتمنعه من دخولها، هذا الشخص في ظروف الهند الحالية يعتبر قائدًا يحترم ويرشح لرئاسة الوزراء!

تعالوا نتفهم ما قرأناه. 

من الواضح أن تقدم الهند نتيجة لانفتاحها واستطاعتها أن تنمو بمعدل يقرب من 10% لما يقرب من عشرين عامًا كان شبه معجزة لأن الهند كانت تعاني من مشاكل طبقية ومن فقر مدقع في طبقاتها الدنيا، ومما ساندها بجانب قوانين الانفتاح كان اهتمامها بالتعليم، وبالبعثات للغرب، وبالجالية الهندية التي تكونت بالأخص في الولايات المتحدة، ولكن الهند، وهي تنفتح اقتصاديًا ودون أن تشعر، قد اخرجت المارد من قمقمه لأنها كانت مخدرة باعجاب العالم لتقدمها، وبالأخص لأن هذا الوقت كانت "المودة" أن يبتعد العالم عن الاشتراكية، والشيوعية، وكانت "المودة" هي الاقتصاد الذي ينساب من أعلى، فأن يرى العالم الرأسمالي دولة بها مشاكل طبقية وفقر مثل الهند تستطيع أن تنمو بمعدل 10% ولعشرين عامًا؟ هذا كان شبه معجزة.

خرج المارد من القمقم وبدأ يكبر ويتوالد، وكان هذا هو الوجه الآخر للانفتاح الاقتصادي في وجود فساد مستوطن، فالنمو الاقتصادي حفز طبقة رجال الأعمال التي بدأت تكبر وتستقوى، فاستحوذت على الثروات الطبيعية للدولة، وبمالها استولت على الإعلام، وبمالها وإعلامها أثرت على القوانين، وعملت على أن تسير سياسة الدولة لمصلحتها، فازداد الاثرياء ثراءً، وازداد الفقراء فقرًا وأمية، وضجر الأثرياء بفقر الفقراء، وحدثت الاضطرابات ونقص النمو العالي للاقتصاد الهندي.

هذه هي الحدوتة.

ما هي مفصلاتها المهمة؟ الإجابة الواضحة لهذا السؤال هي ثلاثية: 1-الأمية، 2-الفقر 3-الفساد، ولكن ما نتناساه هو ثلاثية: 1-ازدواجية المجتمع (الفرق الشاسع بين الأثرياء والفقراء وبين المتعلمين والأميين)، 2-تحكم المال في الاعلام وفي السياسة، 3-اهمال القومية الوطنية.

هل يحدث هذا فقط في الهند؟ 

لا، هذا يحدث في أماكن كثيرة حتى في الولايات المتحدة وأرجو أن ترجعوا فتقرأوا مدونة "علم النفس والإعلام والعلاقات العامة-5" التي ظهرت في 7 يوليو 2012، وفيها وضحت كيف أن المال يشتري الكونجرس الأمريكي وأن في استطاعة المليارديرات مثل أدلسون والأخوان كوخ أن يشتروا منصب رئيس حكومة أقوى دولة في العالم. ولكن، ما يحد من ذلك هو تواجد مجتمع مدني قوي في الولايات المتحدة، فيه ما يسمى بـwatch dog organizations أو هيئات مراقبة أهلية تقف بالمرصاد للمصالح الخاصة. هذه الهيئات لا تتواجد في الديمقراطيات الجديدة التي تتبنى الاقتصاد الحر المنفتح. 

هل من الممكن أن يحدث هذا في مصر، أي أن يزداد فقرائها فقرًا وأثريائها ثرائًا وأن تمر باضطرابات عنيفة؟

بالطبع نعم، بل مصر مهيئة أكثر مما كانت عليه الهند للفرق بين البلدين في التعليم وفي الديمقراطية. 

ما الحل إذا؟

وهنا قالت شهرزاد: " فلنكمل القراءة ونتفكر"، وسكتت عن الكلام المباح. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون