الأحد، 24 مارس 2013

سببية الأمور والنظرة المستقبلية والهدف


طفل رضيع مستلقي على سريره، يفرد ساقه ويضرب به بقوة فيرتطم في لعبة تُخرج صوتًا موسيقيًا. يتعجب الطفل، ويتوقف. ثم يفرد ساقه مرة أخرى ويضرب به بقوة فيرتطم في اللعبة وتخرج الصوت الموسيقي، ويتوقف مرة أخرى، وبطريقة بدائية يبدأ في ربط الصوت الموسيقي مع حركة ساقه، فيصبح هذا الربط من أوائل ملاحظته لسببية الأمور: "سبب الصوت الموسيقى أنني حركت ساقي".

وفي سياق آخر، رضيع أكبر سنا من الرضيع السابق يبكي لأنه
جوعان، فتأتي أمه وترضعه، ويحدث هذا مرات عديدة وبانتظام: كلما جاع وبكى، جاءه اللبن، فيربط بين بكائه ومجيء اللبن. وعندما يحدث هذا مرات عدة ينتقل من سببية الأمور إلى التنبؤ بما سيحدث مستقبلاً: "أنا أبكي الآن، وأتنبأ أن اللبن سيأتي". ويقال أنه إذا حدث أنه كلما جاع وبكى وتنبأ بوصول اللبن وصله اللبن بانتظام، هذا التحقق لما تنبأ به يربي عنده ثقة في ثبات الأمور وفي تحكمه فيها، فتصبح هذه الثقة من أسباب نجاحه في الحياة! هكذا نرى أن ما يحدث في السنين الأولى من حياة الطفل قد يؤثر على حياته بعد عشرات السنين. ولكن هذا ليس موضوع مدونتنا اليوم. فابقوا معي.

في سياق ثالث: عامل يعمل في تجديد منزل، وفي نهاية الأسبوع يعطيه المقاول أجره، ولأنه الآن يمتلك من المال ما يكفيه ليسهر في المقهى إلى وقت متأخر من الليل، فهو يسهر في المقهى، ولا يستيقظ مبكرًا ليذهب إلى العمل، ولا ينتظم في العمل، لذلك، نجد أن الكثير من المقاولين يحتفظون بجزء من ماهية العامل ليضمنوا عودته الاسبوع التالي لينهي العمل. وبعدما يكون قد صرف ما عنده من نقود يحاول العامل إما أن يعود إلى عمله أو أن يذهب إلى مقهى الحرفيين ليجد مقاولاً آخر يعمل معه، وقد يمضي أيامًا دون أن يحصل على ما يكفيه من مال. 

لماذا انقطع العامل عن العمل عندما كان عنده ما يكفيه من مال؟ ألم يكن يعرف أنه يحتاج للعمل وللمال لينفق على بيته؟ ألم يكن يعرف سببية الأمر بين العمل والمال من ناحية ومصاريف بيته من ناحية أخرى؟ طبعًا، كان يعرف سببية هذه الأمور.

ألم يستطيع أن يتنبأ أنه عندما ينقطع عن العمل ربما لن يجد عملاً آخر بسهولة؟ هنا تكون إجابة السؤال أقل وضوحًا عن إجابة السؤال الماضي، فهي تتطلب منه أن ينظر بنظرة مستقبلية إلى أموره في ضوء تراكم تجاربه أو ثقافته، أي تجارب الآخرين.

مبدئيًا، كنت اعتقد أن تصرف هذا العامل هو تصرف شاذ، ولكني اكتشفت من صديقة عالمة في علم الأنثربولوجيا أن تصرفه هو التصرف البدائي الطبيعي لشخص لم يكون نظرة مستقبلية من تجاربه كما رأينا الرضيع يكونها عندما تعلم أن يتنبأ بمجيئ اللبن. عرفت أن طبيعتنا البدائية تجعلنا نتصرف مثل معظم الحيوانات: لا نفكر إلا في الحاضر، فالأسد يصطاد الفريسة عندما يشعر بالجوع، ولا يخزن الطعام للغد، كذلك القرد يقطف الموزة ليأكلها، ولا يخزنها.

اهتمت هيئات الإدخار بهذا الموضوع ودرسته علميًا عن طريق تجارب المسح الذري لأمخاخ من يدخرون ومن لا يدخرون. اثبتت الدراسات أن هناك فرق بين أمخاخ المجموعتين، فعندما طلب ممن يدخرون أن يتصوروا شيئًا سارًا يحدث لهم أو يحدث للآخر وجد الباحثون أن جهة من المخ "تنور" عندما يتصور الإنسان شيئًا سارًا يحدث له تختلف عن الجهة التي "تنور" عندما يتصور أن شخص آخر يحدث له هذا الشيء السار، كذلك، وجد الباحثون أن من يدخرون عندما يفكرون في الادخار يستطيعوا أن "ينورون" الجهة الأولى في مخهم، ولكن الذين لا يدخرون لا ينورون إلا الجهة الثانية، أي لا يستطيعوا أن يتصوروا فائدة الادخار، لذلك، لا يدخرون.

لذا نرى أن التعليم والثقافة وظروفنا المعيشية هم من يغرزوا فينا النظرة المستقبلية.

في مطلع تاريخ الإنسانية كان الإنسان يرحل من مكان إلى آخر جريًا وراء ما يحتاجه من مأكل، ومشرب، وظروف معيشية، ولم يحتاج إلى تخزين الأكل، ولكن برد الشتاء علمه أن يدخر في الخريف ما سيحتاج له في الشتاء، كذلك الفيضانات علمته أن يخطط للمستقبل، وساعد النظام والتخطيط نظرته المستقبلية فقامت الحضارات وتقدم الإنسان. فإن النظرة المستقبلية التي هي من أسباب قيام الحضارات وتقدم الإنسان تغرز في الأطفال الصغار عندما يكلمهم أهلهم عن أشياء في المستقبل: "سيأتي العيد بعد عشرة أيام"، "سنزور جدو وستو يوم الجمعة بعد ثلاثة ايام"، فهكذا تبدأ النظرة المستقبلية تتكون عند الأطفال.

وعندما يكبر الأطفال إلى سن سبع سنوات أو ثماني سنوات يعلمهم الأهل أن يُكونوا أهدافًا لأنفسهم، ويعلموهم الفرق بين الهدف والحلم، ويؤكدوا عليهم أنهم لا يتحكمون في أحلامهم، ولكنهم يستطيعوا أن يتحكموا فيما يختارونه كهدف لهم، فيجب أن يحددوا أهدافهم، ويكونوا أهدافًا قصيرة المدى ليومهم، ولدراستهم، وأخرى طويلة المدى لحياتهم، وأن تكون أهدافهم موضوعية، ذات فائدة لهم، قابلة للقياس حتى يعرفوا متى حققوا أهدافهم، والأهداف هي ما يستطيعوا أن يخططوا له، ويكون تخطيطهم في إطار زمني. 

نرجع مرة أخرى إلى صديقنا العامل الذي لم يُكون نظرة مستقبلية. إنه لم يكونها لأنه لم يجد من يهتم بمساعدته على تكوينها، فشب بدائي التطلعات، لا يفكر إلا في حاضره، ولكن، هل هذه الحالة تتواجد فقط في الطبقات الفقيرة حيث يهمل الأهل في تربية أبنائهم؟ إنها تتواجد في كل الطبقات، وشرطها الوحيد إهمال الأهل والمجتمع في تنمية النظرة المستقبلية في الأطفال.

وهنا قالت شهرزاد: "ليس عندي ما اقوله بعد هذا الكلام"، وسكتت عن الكلام المباح.


د. سهير الدفراوي المصري


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون